Sunday, April 6, 2014

البوابة التاسعة: كتابات عربية وروسية معاصرة




فادي طفيلي

تبدأ البوّابة التاسعة في عددها الثالث هذا اختبارًا جديدًا يمكن تلخيصه بالآتي: تَقَدُّمٌ من إطار الثيمة الواسعة، التي كنّا بدأناها في عددينا الأوَّلين، إلى ما هو أكثر تفصيلًا وقُربًا، إلى النمط الإبداعي الذي يواكب اهتماماتنا الثقافيّة المدينيّة ويُغنيها (كتابة كان هذا النمط أم إنتاجات أخرى). وهذا يعني وضع إيقاع لتسلسل أعداد البوّابة التّاسعة الصادرة مرّتين في العام، مع كلّ خريف وربيع. إيقاعٌ يسير متنوّعًا مع كلّ إصدار، قوامه عددُ ثيمةٍ مُعتاد واسع، يليه عدد “نمط”، مُتكيّف في شكله مع موضوعه ... وهكذا.

إلى هذا الاختبار في الشكل الجديد، المُتكيّف مع النمط المطروح، قرّرنا البدء بما ارتأيناه متقاطِعًا مع ما كنّا بدأنا به عددنا الأوّل – “المُتخيَّل” – الذي استكتب باحثين وأكاديميين وكتّاب، مُستطلعًا رؤاهم في المدن. فاخترنا الآن نمط السَرْد، لما فيه من أبواب مُشرعة للاختبار بالكلمة المكتوبة والخيال الخالص.

وما قمنا به في الحقيقة مثّل مغامرة استثنائيّة تُشعرنا بشيء من الرضا. فها نحن سبّاقون كمجلّة تُعنى بشؤون المدن والعمران والأمكنة، في حثّ الروائي حسن داوود على كتابة رواية كاملة باللغة العربيّة، وسبّاقون في ترجمتها بالتوازي مع كتابتها، ومن ثمّ نشرها في وقت واحد بلغتين، العربيّة والإنكليزيّة، وذلك ضمن مهلة مُحدّدة لا تتعدّى الأشهر الستّة. وهذا للعارفين وقتٌ قياسيّ.

وما أغنى تجربتنا في هذا السياق، كان اختبارنا التواصل مع روائيّ في وقت زامن كتابته لنصّه وهندسته إيّاه، ومرافقتنا لما يكتب، فصلًا فصلًا. فكنّا نقرأ الفصول تواليًا، ونمرّرها إلى المُصممين وإلى المترجمة، لينا مُنذر، لمباشرة العمل عليها بالتنسيق مع المحرّر العام للمجلّة.

الرواية لكاتب لبنانيّ كان افتتح في مطلع الثمانينيات موجة “رواية المكان” في الأدب اللبناني الحديث بعمله المشهود “بناية ماتيلد”، تلك الرواية التي دفعت بصوت الحرب والقضايا الكبرى، المدوّية في بيروت آنذاك، إلى الخلفيّة كي تُصدّر صوت المكان ونبض كائناته الحيّة من بشر وأبنية. وهو تابع هجسه بما تؤول إليه المدينة بكتب أخرى بينها “نزهة الملاك” و”غناء البطريق”. الروائي نفسه اليوم يكتب نصًّا يوحي جزء كبير من أجوائه بوسط مدينة بيروت الجديد، الناشئ بعد الحرب، والذي ما زالت جِدّتُه مُستعصية على الخيال الكتابي لكثيرين.

إلى حسن داوود، المهجوس في “نَقِّلْ فؤادَكَ” بالعمر والبحث عن حب مستحيل ضائع، وبالمكان والبدايات التي لا تنفكّ تتناسل، مُطلّة برأسها من هنا وهناك، اخترنا نصوصًا لكتّاب من جيل كتابيّ – فنّي مُختلف ومُتفرّق، لكن مُتفاعل ومتواصل في خيط حساسيّات “صغيرة”، نابضة من الداخل في كوامنها. وهذا الاختيار تمّ على نحو تلقائي، اعتمادًا على الانحياز لهذه الحساسيّات التي لا تُقصِر استعراضها عند القشرة الخارجيّة ويستهويها البقاء هناك، بل تبدأ بالحفر في كلّ شيء، بدءًا من الذات والآخر، وصولًا إلى المكان الذي يُحيطهما. فتُقدّم هذه النصوص المختارة اختبارات مُلفتة توغل في لغة الجسد والتفاصيل (حسن داوود)، وفي المدينة المحجوبة المُكتنفة بالأسرار (منصورة عزّ الدين)، كما في ملامسة الأغراض الحميمة واللفتات والأنفاس والرعشات (إيرينا بوغاتيريفا) والرقّة الإنسانيّة والبراءة وهشاشة الفرد المُنكشف (أرسلان خسافوف ويزن خليلي). إذ أنّ الجميع يحيا في زمن خفتت فيه الشعارات الهادرة، المُنمّقة، والقشرويّة، والفرد أصبح هو “ذاته” فقط من دون تنميق. “لم تعد الشعارات القديمة عن كرامة العمل طنّانة كما في السابق”، يكتب أرسلان خسافوف، على لسان بطله أرتور، الشاب العشرينيّ، “الروسي” المسلم الداغستاني، المُطارد الأب، والباحث عن عمل في موسكو ربّما يقرّبه قليلًا من حلمه المثالي عن نفسه ككاتب موهوب. و“كلٌّ حرٌّ بتصرّفاته”، تكتب إيرينا بوغاتيريفا وتكرّر جملتها هذه كمحطِّ كلام بين الفينة والأخرى على لسان بطل نصّها، ذاك الدليل السياحي الرصين الذي يحاول تأدية وظيفته بانفصال عن مشاعره الشخصيّة تجاه مجموعات السيّاح المتبدّلة في كلّ مرّة، والتي يقودها ذهابًا وإيابًا من روسيا عبر البلدان الإسكندنافية. علمًا أنّ “حريّة التصرف” تلك قد تتضمّن، في بعض الأحيان، اختفاءً طوعيًا أبديًا (انتحارًا؟).

والواقع أن الجهد الذي بذلته البوّابة التاسعة للوصول إلى كتّاب من خارج الفضاء الثقافي العربي، يُمثّل أيضًا مغامرة تعلّمنا منها. فبالرغم من الجهد المُضاعف في هذه المُهمّة، والمُتمثّل في الترجمة من الروسيّة إلى الإنكليزيّة فالعربيّة، فإننا على الأقل طرقنا بابًا يُهمل طرقه في العادة، ليس فقط من قِبل المتكلّمين بالعربية، بل أيضًا من قبل الغربيين وسواهم. إذ ثمّة ما يشبه الخدر التاريخيّ المُطمئنّ إلى الحضور الراسخ للتراث الكلاسيكي الروسي العالمي (بوشكين، دوستويوفسكي، تورغينيف، تولستوي، ...)، وذلك على حساب روسيا الجديدة، أو روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي. وهذه بحسبنا، على الأقل بالنسبة لنا في العالم العربي، بات اكتشافها أكثر إلحاحًا من ذي قَبلٍ، لما أظهرته أحوالها المستجدّة من وقائع شديدة التقاطع مع وقائع منطقتنا. فروسيا الجديدة هذه، التي اختبرنا في الأشهر الماضية مقدار تأثيرها في الجغرافيا السياسيّة لمنطقتنا، رغم حضورها الثقافي الصامت والملتبس مقارنة بالحضور الغربي المُتعدد، هي روسيا أزمات تكاد تحاكي أزمات عالمنا، من أوليغارشيات التحكّم بالغاز والنفط، إلى مظاهر الدولة البوليسيّة واغتيال الصحافيين واختفاء المعارضين واضطهاد المثليين، وصولًا إلى السؤال القوقازي –  الإسلامي والإثني. كما أنّها بلاد كبيرة مُتنوّعة شهدت، خلال العقدين الأخيرين، بروز حيويّات جديدة لم تعد مُقتصرة على المدن المركزيّة الكبرى، كموسكو وسان بطرسبرغ، بل تعدّت في حراكها إلى مدن أخرى، مثل كازان (حيث ولدت إيرينا بوغاتيريفا) في تتارستان، وسوتشي على ساحل البحر الأسود.

الكاتبان اللذان نقدّمهما في عددنا هذا، هما بالضبط من هذه الروسيا الجديدة (أرسلان خسافوف هو تمامًا مثل بطله التراجيدي أرتور، من إثنية الكوميك المسلمة)، وهما يعكسان تلك النزعة الروسية القائمة على المزيد من البحث والحراك والتنقّل إثر انهيار الستار الحديدي في مطلع تسعينيات القرن العشرين.

والواقع إننا نضع تجربة هذين الكاتبين الروسيين الجديدين، بالتماس مع تجربة جيل كتابي – فنّي عربي متنوّع، هاجسه اختراق عبث الوقائع المتيبّس ومداعبته تهكّمًا (يزن خليلي)، والعبور في طبقات العيش والمكان المتراكمة للوصول إلى “التفاصيل الصغيرة المخفيّة”، على ما تكتب منصورة عزّ الدين في “طيف الصقلي” على لسان بطلها  المعماريّ، “الذي ترافقه القاهرة الفاطميّة كهوس قديم”.


ونحن في هذا السياق لا ننشر رواية ومجموعة من القصص وحسب، بل إننا نتسبب في إيجاد روايتين اثنتين. فإلى “نَقِّلْ فؤادَكَ” لحسن داوود، ها هي الكاتبة المصريّة منصورة عزّ الدين تنطلق من النصّ الذي خصّته للبوّابة التّاسعة، إلى كتابة رواية كاملة بطلها معماريّها القاهريّ ذاك، الذي يظهر في الأحلام مُطِلًّا من نافذة في “رمسيس هيلتون” ليرمي أوراقًا مثل شهبٍ تنطفئ بملامستها الأرض.



افتتاحية عدد خريف 2013 من دورية البوابة التاسعة

* طيف الصقلي رواية قيد الكتابة

No comments:

Post a Comment