منصورة عز الدين
وأنت تقرأ مجموعة "حكايات بين جُعبة وأخرى"
للكاتب التشيكي كارل تْشابِك، ستخطر في بالك أسئلة وأفكار كثيرة حول الزمن
والكتابة. مثلاً، ما الذي يجعل كاتباً ما ابن عصره فقط وكاتباً آخر عابراً للعصور
ومتجاوزاً لزمنه ووطنه ولغته؟
حكايات تْشابِك صدرت لأول مرة عام 1929، ومكتوبة بأسلوب
بسيط تقنياً؛ لا حيل ولا ألاعيب فنية أو بنائية، لكن ما يضفي عليها مسحة مقاومة
للزمن سخريتها الذكية ورؤيتها الإنسانية بالأساس.
الطرافة هنا سيدة الموقف، والمفارقات الساخرة حاضرة على الدوام.
الحكايات، التي تطغى عليها الكوميديا وخفة الظل، حافلة أيضاً بالتأملات والأفكار
الفلسفية، كأن تْشابِك لم يكتب حكاياته إلّا ليطرح عبرها تأملاته عن الحياة والناس.
تقرأ، فتشعر أنك أمام كوميديا أخطاء وحماقات من نوع ما.
تتذكر المثل اليهودي: "الإنسان يفكر والإله يضحك"، وأنت تنتقل من قصة
لأخرى، غير أن الكاتب لا يحوِّل شخصياته إلى كاريكاتير ولا يسخر منها، بل يتأمل
حماقاتها بتفهم إنساني موحياً لقارئه، دوماً، بأن الأشياء ليست كما تبدو، كأنما
يقول له: أعِد النظر! دقق في التفاصيل! غَيّر زاوية الرؤية، وسترى حينها شيئاً
مختلفاً عمّا خرجت به في المرة الأولى.
عنون الدكتور لوبوش كروباتشك، الأستاذ بجامعة تشارلز
ببراغ، مقدمته القصيرة للكتاب بـ"كارل تْشابِك وحكاياته البوليسية"! والحقيقة
أن الحكايات ليست بوليسية على الإطلاق، وربما لو لم توجِّه المقدمة انتباه القارئ
نحو رؤية الحكايات كحكايات بوليسية لما اهتم القارئ بهذا الجانب، ولَنَجَت القصص
من هذا التصنيف الضيق والمُبتسِر لها.
صحيح أن في معظمها حادثة أو جريمة، كما أن هناك – على
الدوام – رجال بوليس ومحققين وقضاة، لكن الجريمة نفسها ليست بؤرة اهتمام الكاتب، خاصة
أن المجرم نفسه مغيَّب في كثير من الحالات. ما يهم تْشابِك هو ما يحيط بهذه
الجرائم أو ما قد تمثله له من فرصة للتأمل في سلوكيات البشر وشرورهم الصغيرة.
وكثيراً ما تتحول حادثة ما إلى لحظة إشراق للبطل، ففي قصة "اعتداء بهدف
القتل"، كانت الطلقة التي اخترقت النافذة الواقعة فوق رأس السيد تومسا مناسبة
لإعادة النظر في حياته كلها، فبعد أن قال لمفتش البوليس أنه بلا أعداء، تساءل:
"لماذا يطلق عليّ أحدهم النار؟"، ثم بدأ يستدعي كل من أخطأ في حقهم ولو
أخطاء عابرة، ليصل في النهاية إلى أن من قد يكرهونه من الكثرة بحيث يصعب حصرهم.
هذه الخلاصة احتاجت منه فقط أن يغير زاوية النظر لماضيه، وهذا لم يكن ليحدث لولا
الرصاصة الطائشة.
تغيير زاوية النظر هذا يحدث بشكل هزلي في قصة
"أسرار الكتابة"، حيث يرسم محلل الخط جنسن صورة مظلمة لزوجة البطل من
خلال تحليله لخطها، فيبدأ الزوج – الذي عاش مع زوجته في سعادة لعشرين عاماً - في
تفسير أبسط كلماتها وأكثرها تلقائية انطلاقاً من تحليل جنسن المتحامل عليها.
الهوس أيضاً حاضر بقوة في حكايات تْشابِك، فكثير من
الشخصيات علاقتها بالأشياء هوسية، من هوس بكشف لغز طبعات الأقدام على الثلج، إلى
هوس بالسجادة الفارسية أو بالأقحوان الأزرق أو حتى بتجويد الخبز دون الحاجة لذلك.
هوس بشري جالب للابتسامة، التي لن تفارق القارئ طوال قراءته للكتاب، بل قد تتحول
أحياناً إلى ضحكة مجلجلة في بعض القصص، مثل قصة "شاعر"،
و"إبرة" و"أسرار الكتابة".
"حكايات بين جُعبة وأخرى" لكارل تشابِك عمل
جدير بالقراءة والاهتمام، وقد صدرت طبعته العربية مؤخراً عن منشورات المتوسط،
بترجمة أنجزها عن التشيكية مباشرة المترجم الفلسطيني برهان قلق.
* زاوية "كتاب".. أخبار الأدب.