د. محمد سمير عبد السلام
"أخيلة
الظل" رواية حديثة للروائية المبدعة منصورة عز الدين، صدرت عن دار التنوير
للنشر بالقاهرة سنة 2017، وتحتفي كتابة منصورة عز الدين بالتجريب في كينونة
الساردة، والشخصيات، وتجاوز مركزية الإشارات، والعلامات، والمتواليات، والوحدات في
النص السردي؛ فالوجود التاريخي – في البنية المحتملة للحكاية – في كتابة منصورة عز
الدين، ينطوي على حضور تصويري آخر، أو نسخ، وتشبيهات تتداخل – بصورة أولية – مع
لحظة النشوء الأولى في العالم؛ فخيال الظل – كشكل فني – يصير تأويلا سرديا للذات
عبر وفرة من الظلال المكملة، والمؤسسة للوجود الفني الداخلي الآخر.
إن الساردة تفكك
بدايات الوجود من خلال الكشف عن احتمالاته الفنية، وتشبيهاته؛ فالذات تتطور في
صيرورة التمثيلات الفنية، أو الظلال، أو الأطياف التصويرية المستعادة من تاريخ
الفن، والشخصيات الأدبية؛ وهو ما يذكرنا بتداخل الصورة مع الحقيقي، أو استباقها له
في فكر جان بودريار؛ فالنشوء الجمالي للشخصية يعزز من تداعيات الكتابة، وصيرورة
العلامات التي تفكك مركزية لحظة الحضور، وبنى الشخصيات المحتملة، وشكل علاقة
الساردة بشخصياتها؛ فالشخصية – في رواية منصورة عز الدين – تقع ضمن شبكة لا مركزية
من التداخلات الحكائية التفسيرية التي تقع بين وعي الأنا، ووعي الآخر، أو الآخرين؛
فالساردة تقدم لنا موقفا سرديا يجمع بين الكاتبة كاميليا، والكاتب آدم بالقرب من
متحف لكافكا في براغ، ثم تشير إلى شخصية أولجا الفنية في وعي كاميليا؛ تلك الشخصية
كاتبة روسية تقيم مع ساندوز عازف البيانو؛ وهي شخصية احتمالية في أخيلة اليقظة
التي تسبق عملية الكتابة في وعي كاميليا، ثم تشير الساردة إلى أن كاميليا نفسها
تقع ضمن أخيلة الكتابة المتعلقة بوعي أولجا؛ وكأن المجازي يختلط بنشوء الحقيقي
المحتمل نفسه في صيرورة إبداعية تتجاوز الوظائف التقليدية للراوي، وإشاراته، ووجهة
نظره التي لا تنفصل هنا عن تداعيات الكتابة، واستبدالاتها، ووفرة الرواة المحتملين
في النصوص السردية الوليدة، أو متواليات الأخيلة، وشخصياتها المتشابكة.
إن الساردة لا
تدعي – في خطابها – العلم بصيرورة شخصياتها الفنية؛ وكأنها تحاول القبض على لحظات
إبداعية متناثرة من تجدد الحضور، لا بداياته، أو زمنه الخاص، وإنما تفسيراته
السردية المحتملة، أو المضاعفة، والمتجاوزة لحدود الساردة نفسها؛ ومن ثم تعزز
الرواية من التداخل ما بعد الحداثي بين النصي، والواقعي، وتجاوز بنية الحكي،
وإشاراته التي تحتفي بالواقع الافتراضي، والسخرية من الحدود، والبدايات، والنهايات
الحاسمة في النص السردي، ومتوالياته.
وتومئ عتبة
العنوان / أخيلة الظل إلى هذا الاتجاه؛ فالظل مفتتح للنسخ التصويرية الفنية
المحتملة للشخصيات، ويعزز من اللعب، وتمثيلات النصوص الفنية الوليدة، ووفرة الرواة
المحتملين فيها؛ ويقوم الظل أيضا ببعث الرؤى، وأطياف الفن، والشخصيات الأدبية؛ مثل
الفراغ في فلسفة الطاو، والسياق الحلمي لحكاية أليس، أو علامة الجميزة، وعلاقتها
بحتحور في الحضارة المصرية القديمة، أو السيدة دالاوي في رواية فرجينيا وولف، أو
بطل جاتسبي العظيم لسكوت فيتسجيرالد، وانبعاث صوت ماريا كالاس كتمثيل لنموذج
الأمومة في وعي العازف، أو الممثلة كاميليا، وعلاقتها بأحمد سالم، وعلاقتها
التشبيهية بنشوء كاميليا / الكاتبة الافتراضي في النص.
إن الانبعاث
الفني لمثل هذه الشخصيات، يوحي بتجدد النسخ التصويرية للذات من جهة، والاحتفاء بالتجدد
الإبداعي المتجاوز لخصوصية الوجود التاريخي في فعل الحكي من جهة أخرى؛ فالساردة
تستقبل لحظات التداخل بين إنتاجية وعي الأنا، وإنتاجية وعي الآخر / المحتمل، أو
النصي، وتحتفي بوفرة الظلال التي تسبق لحظة الكتابة، وتداعياتها، واختلاطها باتساع
الوجود، وتعيد تمثيلها في سياقات تأويلية متجددة، تسخر من ثنائية الشخصية، والظل،
أو الحضور الفني المحتمل في وعي الآخر؛ وقد تتداخل الأصوات، والأزمنة؛ لتقاوم بنية
التدمير في العالم الداخلي لبطل القصة الوليدة "ناسك في غابة" التي
كتبها آدم؛ وهو شخصية فنية في الرواية؛ وهو ما يذكرنا بمدلول التصوف عند
كازانتزاكيس؛ إذ إن صوت الأنا يحمل بداخله الأسلاف، وكذلك النزوع إلى تداخل بنى
الأصوات، والأزمنة في مسرح جروتوفسكي الطقسي؛ وما يستدعيه من تجريب في مستوى
الكينونة، ومساءلة الحضور النسبي للذات.
وترتكز رواية
منصورة عز الدين على أشكال متنوعة من اللعب، والسخرية، واستنزاف المركز؛ فالسكون
اللانهائي في فلسفة الطاو، يستنزف صخب الحرب، وتاريخ التعارض بين الأنا، والآخر،
والنهايات الآلية الشيئية العبثية للإنسان؛ ويبدو هذا واضحا في الاتساع الكوني
للصوت في شخصية بطل قصة ناسك في غابة لآدم، وفي تخييل صورة جدته، واستنزاف الأزرق
المجرد لصخب فلاديمير الزوج السابق للكاتبة أولجا؛ فمشيته الميكانيكية العبثية
التي تذكرنا بشخصيات بيكيت، وعوالمه، تذوب في أخيلة الأزرق، وسماويته المحتملة
التي تؤكد التناقض، وتتجاوز بنية الصخب في عالمه.
وتستنزف الساردة
بنية الحكي نفسها من داخل التجدد الدائري للتشبيهات، وأشكال الوجود التصويري
الأولى داخل الكينونة، وتأويلاتها المستمدة من تاريخ الفن، ونصوص الأدب، والذاكرة
الجمعية، واستخدام لغة السرد الاحتمالية التي تفكك خطاب الراوي حول شخصياته،
ومساءلة تشكلها في بنية خاصة؛ إذ تبدو كأثر جمالي، وفاعل في الحكاية المحتملة في
آن.
ويطلق جون بارث
على مفهوم الاستعادة الممزوجة بالسخرية "أدب الاستنزاف"؛ ويشير المفهوم –
عند بارث – إلى استنفاد أشكال، أو قدرات معينة في التفكير الأدبي؛ ويمثل له
باستخدام بورخيس للطريق الثقافي ضد نفسه؛ لإنتاج عمل فني جديد؛ فمن أساليب بورخيس
خلط الحلم بالواقع، والتعليق علي هذا الخلط في قصته "طولون الأكبر".
(راجع، بارث، أدب الاستنزاف، ضمن كتاب الرواية اليوم، تحرير: مالكوم برادبري، ت:
أحمد عمر شاهين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1996، ص 64، و70، و71).
هكذا تتجاوز ساردة
منصورة عز الدين طرائق الإدراك التقليدية، وتستنزف الحكي في لحظات التجدد الفني المحتمل
للشخصية؛ في الظلال، والأطياف، والصيرورة النصية، والكونية المتجاوزة لمدلولي
الكينونة، والرؤية؛ فالساردة تلتقط لحظات من الحضور الحلمي التصويري، وتحولاته،
واستبدالاته الممكنة، لا تاريخه، أو بداياته، أو حدوثه؛ إذ يلتبس دائما بالغياب،
أو التجلي كأثر في وعي الآخر، وتأويلاته.
*التجريب
في وظائف الراوي:
ترتكز ساردة
منصورة عز الدين – في أخيلة الظل – على التبئير الداخلي المتنوع وفق تعبير جيرار
جينيت؛ إذ تقدم الشخصيات المتنوعة من الداخل، وتسهب في وصف الأخيلة، وأخيلة
اليقظة، والذكريات، وعلامات الوعي، واللاوعي، وكثيرا ما تصف مستوى ما قبل الكلام،
وفق تعبير روبرت همفري عن رواية تيار الوعي عند وولف، وجويس؛ ورغم هذا التقديم
للشخصيات من الداخل، فإن الساردة تمنحنا الإشارات بأن هذه الشخصيات تقع ضمن فعل
الكتابة؛ فكل منها يكتب الآخر، أو يقوم بتخييله، أو هو جزء من تخييل مضاعف؛ أي كتب
بواسطة شخصية تقع ضمن وعي شخصية أخرى؛ ومن ثم فهي تمارس تناقضا إبداعيا بين تقديم
الحضور الداخلي النسبي للشخصية، وتفكيك بنية ذلك الحضور؛ بالكشف عن الجانب
الافتراضي فيه، وهوامش الغياب في أطياف الكتابة، وظلالها التخييلية، أو المستعادة
من تاريخ الأدب، والفن.
تصف الساردة
لقاء آدم، وكاميليا في سياق يراوح بين واقع احتمالي، وطاقة إبداعية خفية مستمدة من
كافكا، وشخصياته؛ وكأن الواقع يختلط بفاعلية التراث الثقافي الاستعارية المحتملة.
ويتضمن خطاب
كاميليا – المقدم بواسطة الساردة – أنها تكتب في حلمها قصة تشترك في أحداثها عن
كاتبة روسية تعيش في براغ، تكتب عن طفلة ناجية من مذبحة، ويسكن معها عازف بيانو،
وعن عجوز يسير بلا انقطاع.
لقد بزغت
الشخصيات الفنية من وعي، ولاوعي كاميليا في لحظات التشكل الأولى لرواية، ولكننا
نلاحظ الاستمرارية ما بعد الحداثية في تشكيل العمل عبر صيرورة من الأخيلة، ومشاريع
للكتابة تتجاوز وعي الساردة، ووعي شخصياتها؛ فكاميليا جزء من أخيلة الكاتبة أولجا
التي اختارت أن تعيش بطلتها في مدينة شرق أوسطية، واختارت لها القاهرة، وهي تشبيه
للممثلة كاميليا في وعي الأم، كما تعيد تمثيل النزعة الأنثوية المناهضة لخطاب
الأب؛ وكأنها تجدد شاعرية الأنوثة في انبعاث علاماتها النصية ضمن التاريخ التفسيري
لنشوئها المجازي.
إن الساردة
تحاول القبض على تشابك العلاقات الاحتمالية في وعي ولاوعي الشخصيات التي تتراوح
بين الحضور الفني الافتراضي، والتجدد في الأخيلة المتداخلة بين الأنا، والآخر،
وأطياف الذاكرة الجمعية، دون بدايات، أو نهايات؛ فكثيرا ما تتجاوز الشخصية العدم
في لحظة التوحد بالفراغ الإبداعي التمثيلي الذي يجمع بين سكون الطاو، وعودته
الدائرية، وتداعيات الكتابة، واستبدالاتها التمثيلية.
تمارس الساردة
استباقا، وتخييلا للشخصيات، والأحداث الاحتمالية في النص؛ فهي تستبق تطور الشخصية
عبر متواليات سردية حلمية تأويلية، تذكرنا بالوظيفة التأويلية للسرد في فكر بول
ريكور، وتفكك التطور المنطقي للوظائف، والوحدات السردية عبر فعل التخييل، والوعي
باحتمالية الشخصية، ووجودها التصويري، وتجددها خارج الخطاب الحكائي؛ إذ تقع في
علاقات متداخلة، تقاوم البدايات، والنهايات.
وقد تجمع
الساردة بين حلم اليقظة، ومستوى ما قبل الكلام في استبطانها للشخصيات النصية
الافتراضية؛ فكاميليا تعيد تخييل البهجة في واقع يشبه الحلم، وهي تمسك بطفل،
وتعاين الكرنفالات الراقصة، والموسيقى، والخيول التي ترقص، ومرح الأطفال، والناس
الذين يستمعون القصص، ثم تنتقل إلى المستوى الأعمق من اللاوعي؛ إذ تواجه عربة
تجرها الخيول، وتنتزع منها الطفل، وقد نجد هوة تلتهم أجزاء من جسدها مثل الكبد،
والرحم، والقلب، تقترن بها صورة طفل في السماء؛ وهو ما يذكرنا بالإيروس، والتدمير
عند فرويد، وتشير البطلة إلى حلم السقوط اللانهائي الذي يؤجل بنيتي السقوط،
والطيران معا؛ وكأنها تستنزف النهايات، وتسخر من مركزية مدلولي الموت، والحياة في
صيرورة الكتابة؛ إنه سقوط مؤول للتجدد الفني، وللمراوحة بين الحضور، والغياب في
تحولات الصورة.
ويربط فرويد بين
الأحلام التي يرى الحالم – فيها – نفسه يطير، أو يسقط، أو يموج في الهواء،
والألعاب الحركية في الطفولة، وهي تجمع بين الفزع، واللذة. (راجع، فرويد، تفسير
الأحلام، ت: د. مصطفى صفوان، مراجعة: د. مصطفى زيور، دار المعارف بالقاهرة، ص
397).
إن كاميليا تؤجل
بنيتي السقوط، وموت الطفل في مسافة من اللعب، والحضور الفني المضاعف؛ فالساردة
تؤول الشخصيات من خلال تشابكها الجمالي، وتحتفي بتعدديتها النصية؛ فآدم يقوم
بتخييل جدته التي نجت، وهي طفلة من الحرب، ويكتب قصة لها راو عن ناسك في غابة،
وأولجا المتخيلة تقوم بتخييل كاميليا، وتكتب قصة لها راو عن آميديا؛ ومن ثم يتضاعف
الرواة في الكتابة التي تفكك الانفصال الافتراضي بين الساردة، والشخصية في النص
الروائي.
*تداخل
الأصوات، والأزمنة:
يشير الظل إلى
وفرة الصور المحتملة، وإلى الحضور الفني الآخر، أو الغياب / التدمير في وعي،
ولاوعي آدم، أو يصير تأويلا سرديا لعلاقة الفناء بوفرة الوجود التصويري المتجد،
وأزمنته المتنوعة، وأصواته المتداخلة؛ فعقب تدمير قرية بطل قصة آدم "ناسك في
غابة"، نعاين حضوره الفني المضاعف، وتشبيهاته، وتداخل صوته مع أصوات تمثيلية
إبداعية أخرى محتملة؛ مثل راع في زمن سحيق، أو امرأة ريفية تترقب – بخوف – فيضان النهر،
أو جندي صيني مات فرسه، وينادي على قائده؛ ليبلغه بقدوم الأعداء، ثم تنفك العلاقة
بين التدمير، وأخيلة اليقظة التي تتمركز حول لاعبة أكروبات جميلة.
إن صوت البطل
جمعي، وكوني، يستعصي على الحدود، والتاريخ الخاص؛ إنه يؤول الوجود الإنساني من
داخل أطيافه الفنية، وأصواته المتجددة في الفراغ، والأزمنة المتداخلة في لحظة
الحضور؛ والتي تؤكد التصور ما بعد الحداثي المتجاوز لمركزية التسلسل الزمني في
الفن.
للصوت – إذا –
حضور جمالي متجدد، وهوامش بشرية كونية عميقة، تمارس تمثيلات علاماتية مجازية
متجددة في حالة من اللعب.
وتشير لاعبة
الأكروبات إلى نوع من السكون / الخدر الذي يذكرنا بمدلول الأنيما عند
باشلار، والتأملات الأنثوية المتجاوزة لتاريخ
التعارض بين الأنا، والآخر؛ ويؤكد ذلك التصور حلم آميديا بصفاء السماء الفيروزية،
وسكونه المتجاوز للموت الصاخب في ذاكرتها.
*اللعب:
ترتبط العلامات
في وعي، ولاوعي كاميليا بعلاقات جمالية لعبية تشبه تشبيهات كاميليا نفسها، وظلال
شخصيات النص الروائي؛ إذ تربط بين شخصيات مارك شاجال المحلقة، وسفينة غارقة، وبين
مارلين مونرو، وكارثة، وبين لوسيان فرويد، وثلوج لانهائية.
هل توحي تموجات
الشخصيات الفنية – في لوحات شاجال – بانبعاث أخيلة الأنوثة؟ أم أنها توحي بامتداد
السباحة الهوائية المتجاوزة للنهايات في ألعاب الساردة، وأحلامها؟
تواصل الساردة –
إذا- ألعاب الكتابة، واستبدالاتها التصويرية / السردية التي تبعث الحياة الفنية
المتجددة في توحد الشخصيات بالصور المستقبلية المتداخلة مع التراث الثقافي،
وعلامات الأدب، والفن الحية.
نقلاً عن جريدة "الحياة".. 4 أكتوبر 2017