Wednesday, October 4, 2017

أخيلة الظل لمنصورة عز الدين: خيالات الطفولة وآمالها




سومر شحادة



في روايتها "أخيلة الظل" (التنوير 2017) تلجأ الكاتبة المصرية منصورة عز الدين إلى تَخيّل الواقع، عبر سلسلة افتراضات لا تنزع عن الحكاية واقعيتها، وإنّما تراها بعين الخيال. في كتابة تجريبية تتخذ من القارئ شريكًا في صناعة النص، إما بإيهامهِ أنّه ضمن فريق متجانس من الرواة، أو بتقديم حكاية مفككة تتجمّع في ذهنهِ ووفقًا لتأويلاتهِ وارتدادات أزماته الشخصية. لا يشكل هذا النوع من الكتابة اختبارًا لكاتبهِ وحسب وإنّما كشفًا لذات قارئهِ، فالرواية التي تنشغل بأشكال الفن المختلفة. أبطالها كتّاب، وهامشيوها موسيقيون ورسامون؛ تظهر كما لو أنّها صدىً لمذابح قديمة ومجتمعات مستلبة، لا يصنع الفرد فيها قدرهُ الخاص وإنّما يصنعهُ الآخرون. بين الخوف والرغبات بين وحشة التخلي وإرادة العيش أو النسيان، بين الخذلان الخالص ويقظة الهواجس، تشرق أخيلة الظل حيوات مستعارة تنوء بالخيبات ومسارات تشكلها.

من مقعد خشبي في حديقة قرب جسر تشارلز في براغ، تبدأ الرواية، عبر حوار ينشأ بين امرأة مكتنزة تنظر إلى الفراغ بين قدميها ورجل يحدق في الأرض بعينين متجهمتين. يلتقيان أثناء زيارة لمتحف كافكا، كاميليا كاتبة من القاهرة وآدم كاتب من سياتل، بالإضافة إلى أولغا وهي كاتبة روسية تسكن وعي كاميليا وتسكن كاميليا وآدم شاشة حاسوبها. تُسند الكاتبة مسار أبطالها إلى عقد تعود إلى الطفولة؛ وتمثل مصائر العديد من الشخوص مجرد ارتدادت مؤلمة وغير واعية لسلوك مورس عليهم أو سقطوا فيهِ وهم في طور التشكّل النفسي. إذ تتعرض كاميليا في عمر الخامسة إلى ركلة من والدها، لقد كتبت من أجل فهم ذلك الحدث المنتمي إلى طفولتها، وأخذت كتابتها شكل تبرير للركلات المعنوية التي تعرضت لها خلال حياتها. بينما حلم آدم بأن يصبح كاتبًا منذ قرأ قصة لـ "لافكرافت". وتعلّم في قبو معتم أنّ قهر الخوف يكون بالاستسلام لهُ، يدفعه خوفه من ظلّه في حوض الاستحمام إلى الكتابة عن "مدينة للخوف" تشبه أرضًا مسكونة بالظلال. وقد أكسبه القبو رهابًا يتمثل في عجزه عن إرضاء النساء، واعتقاده أنّ نفاذ الصبر والغضب سمتان ملازمتان للنساء في المواقف الحميمة، وذلك بعد تجربة مخزية مع فتاة تكبره بسنوات.

تزور كاميليا آدم بعد مئات الرسائل الإلكترونية. في المنزل، وروز منشغلة بدفع أرجوحة فارغة، تجد كاميليا آدم مختلفًا، وتعرض الراوية عقدة طفولية ثالثة تعود لزوجته، حيث فقدت روز أختها أثناء اللعب، وخبأت تلك الحقيقة التي حطمّت قدرتها على الإنجاب. اعتقدت كاميليا أنّ آدم يستغلها من أجل صنع إثارة في حياتهِ الزوجية، لتدرك أنّ زوجة صديقها ما تزال تواجه سؤالًا أصمًا وهو:"هل دفعتُ الأرجوحة أقوى مما ينبغي"؟ السؤال الذي لم يغير حقيقة أنّ سقطة مميتة واحدة قتلت حياتين.

تتعاقب فصول الرواية، وتتناوب الكاتبة عز الدين في حكاية كلّ من الكتّاب الثلاثة عبرهم أنفسهم. إذ تروي أولغا حكاية آدم بدءًا من آميديا جدته، الناجية من مذبحة "سيفو" بحق السريان والآشوريين. وتروي حكاية كاميليا، بعدما كشف كلّ من آدم وكاميليا حياته للآخر، بسلاسة وعفوية. تسمي دولت ابنتها تيمنًا بممثلة أدت دورًا إلى جانب أحمد سالم. لكن تبقى الطفلة محط ازدراء من أمها، التي لم تتوقف عن الإيحاء لابنتها بأنّ التحف المتبقية من إرث عائلتها أكثر أهمية من البنت نفسها، في إحدى السهرات تغفل كاميليا عن نار أشعلت شعرها، يغمر منير رأسها بصدرهِ كي يُطفئ النار، ولتشتعل رغبته بها، وتنتهي بهما زوجين وقد انفصل عن زوجته فريدة أمثولة دولت للمرأة. تتمرد كاميليا على والدتها وتهزأ بزواجها، من صورة الفتاة غير الفاهمة للتركيبة الطبقية التي تدور والدتها في فلكها، تضطر إلى الإجهاض. وتطلب من منير أن يكلمها وهي في سرير المستشفى، فيقص عليها حكاية قبلاتهما المسروقة على شرفة طليقته. هكذا راح النص المصاغ بلا مبالاة الآخرين يحتفي بلحظات شاعرية تربت على الوحشة المتنامية في وجه القارئ. لتكون الرواية لا مجرد لعبة افتراضات، حسبما قدمت لها الكاتبة، بل لعبًا حساسًا يسعى إلى ترويض القسوة أو إدانتها عبر تصوير مآلاتها. خصوصًا، بتحول كاميليا من امرأة مندفعة إلى أخرى، لو عايشت يوم القيامة لوصفته "بمجرد يوم غير ملائم للخروج".

تتسم الرواية بمشهدية عالية، تختزل الكاتبة سنوات عبر مشاهد كأنّها مأخوذة من فيلم سينمائي صامت لا أهمية للكلمات سوى بقدر الحاجة لتأويلاتها في المستقبل. تعيش أولغا مع عازف بيانو، دفعه هجران أمه إلى التقرّب من امراة متزوجة كي تحكي له عن ابنها، قبل أن يكتشف الزوج العلاقة التي جمعتهما. وتختلط بعد سنوات في رأس ساندور "عينا أولغا المتسعتان لذة واستمتاعًا بعينين قديمتين اتسعتا هلعًا". يعاني ساندور إثر هجوم الزوج عليه وهو برفقة زوجة الأخير، من كسور في الأصابع، ويفقد القدرة على العزف، يتأمل مستقبلًا مبتورًا دفعه والده للاعتقاد بأنّه معلّق بأصابعه. تقحم الكاتبة بين الفصول المنضبطة حكاية قائد، وتروي حكايته على نحو درامي وتقليدي، إذ يتراوح مصيره بين المجد والأفول، ينهار دوره كـ "منقذ" وهو الدور الذي لطالما ألفه الطغاة. ويكتشف أنّه تحول إلى ألعوبة بأيدٍ مجهولة، ولم يبقَ من تاريخهِ سوى رجفة الماكيير الذي يجهزه لتصوير خطابات مطلوب منه تأديتها. في حين، لا يكترث له حراسه كما لو أنّه "هواء".


من اللافت في الرواية الإشارة إلى لغة الجدة، آميديا، وارتباطها الوثيق بالذاكرة، بالألم والرحيل، إذ تتعلم الإنكليزية في الدير كي تمحو ذاكرتها عن المذبحة. وفي المنفى، وهي عجوز بانتظار موتها، تتطلع إلى عيني روز، التي تعرف معنى الألم، وتدخل مونولوجًا طويلًا باللغة الآشورية، كأنّها  عبر اللغة تهرب من وطنها، وعبر اللغة تعود إليه.

نقلاً عن جريدة العربي الجديد
1 أكتوبر 2017

No comments:

Post a Comment