Thursday, October 5, 2017

أخيلة الظل: اللعب بالكتابة ومعها





د. عزة مازن



في روايتها الأحدث "أخيلة الظل" (2017) تمارس الروائية والقاصة منصورة عز الدين تجربة الكتابة عن الكتابة، أو "ما وراء الكتابة" metafiction ، فتتشابك خيوط السرد ومصائر الشخوص وحكاياتهم، ويتحول الجميع إلى شخوص في قصص وحكايات يكتبها البعض، وتبقى أحلامًا معلقة في أذهان البعض، خيوطاً متشابكة تحركها الكاتبة أو يلهو بها راو متوار خلف نسيج الحكايات. تكتب شخوص الرواية بعضها بعضًا وتفكر إحداها في الكتابة على أنها "في جوهرها، مطاردة للسراب ولعب معه، بل واختراع له".

تلقي الكاتبة بالخيوط المتشابكة في الفقرة السردية الأولى " ليست صورة، بل ركلة محكمة"، لتكسر الإيهام بأن ما تكتبه ليس رواية في إطارها المتعارف، فتعلن بداية اللعبة – لعبة الخيال- ثم تترك خيوطها تنفرج وتلتقي وتتقاطع في الفقرات التالية، ويجد القارئ نفسه متورطًا في اللعبة، يلهث وراء السطور، رغبة في فصل الظلال المتشابكة والمتداخلة، من يكتب من، ومن ما هو إلا طيفًا في حلم أحدهم أو وهمًا في عقل آخر؟ تُستهل الفقرة بالقول: "تخيلوا معي مقعدًا خشبيًا في الباحة الأمامية لبيت على ضفة "الفلتافا"، قريبًا من جسر تشارلز". على المقعد يجلس رجل وامرأة "وحيدان في ضحى مشمس. هي قادمة من القاهرة في زيارة لواحدة من مدن أحلامها، وهو وصل من "سياتل" قبل يومين للمشاركة في مهرجان أدبي بمدينة لا يمل من التجول فيها". يمتهن الاثنان الكتابة ويحاولا التواصل بعبارات مكرورة عن الطقس، بعدها تحكي المرأة، دون انتظار لرد فعل من رفيقها: "هذه زيارتي الأولى، لكن هل ستصدقني لو أخبرتك أنني أرى "براغ" في حلم متكرر، وأنها في الواقع، مطابقة لما سبق وحلمت به؟" وتواصل فتحكي عن قصة تكتبها في حلمها وتشارك في أحداثها: "عن كاتبة روسية تعيش في "براغ"، تكتب بدورها عن طفلة ناجية من مذبحة. يسكن مع الكاتبة الروسية عازف بيانو". وتستغرق المرأة في تفاصيل الحلم: "كان ثمة أيضًا عجوز يسير بلا انقطاع، جيئة وذهابًا، على جسر تشارلز، فيما أتابعه من شرفة الكاتبة الروسية في بناية تشرف على الفلتافا." وسرعان ما يكسر السرد الإيهام ليشرك القارئ في عملية الكتابة ذاتها: "ماذا لو اخترنا للقاهرية الجالسة في الباحة الأمامية لمتحف كافكا، اسم كاميليا! وللرجل القادم من "سياتل" والمستكين بجوارها منصتًا لكلماتها اسم آدم"! ويخبرها الرجل بحلمه في أن يصبح كاتبًا، بعد أن قرأ في صباه قصة للافكرافت. وتمعن لعبة الخيال في التأكيد على ذاتها وتشابك خيوطها: "لن يبدو الأمر غريبًا لو افترضنا أن آدم هذا حفيد لاجئة شرق أوسطية تزوجت بحارًا يونانيًا، وانتقلت معه من ميناء لآخر، حتى استقر بهما المقام في "سياتل"، فكما تعرفون كل شىء مباح في لعبة الافتراضات، وما نحن بصدده مجرد لعبة".

في الفقرة السردية التالية "فليكن اسمها أولجا"، تؤكد الصيغ الاحتمالية على استمرار اللعبة، بينما يوهم السرد القارئ ببداية انفراج تشابك خيوط الحكايات، وهي في الحقيقة تزداد تعقيدًا وتشابكًا. فليست الحكايات المتشابكة حلمًا في ذهن كاميليا، أو رواية تسعى إلى كتابتها، إنما أولجا هي التي تغرق في أحلام يقظة لانهائية. "تتمحور أحلام يقظتها حول شخصيتين متخيلتين: رجل اختارت له اسم آدم وتخيلته مقيمًا في سياتل، وامرأة اسمها كاميليا واحتارت في تحديد مكان عيشها". بعدها تقرر أولجا "أن القاهرة هي البقعة الملائمة". يواصل السرد أن "آدم وكاميليا، كما خايلاها، يمتهنان الكتابة والتقيا مصادفة في براغ... يتعامل كل منهما مع الآخر كبئر يلقي فيها أسراره وخيباته، كما يفعل غريبان يثقان في أن طرقهما لن تتقاطع ثانية". يبقى آدم وكاميليا قيد خيال أولجا "لا تكتبهما، لأنها أرادت لهما الحياة في صخب أفكارها، أرادتهما سرًا حميمًا، لا كتابة عمومية تستهدف قراءً لا تعرفهم، ولا تربطهم بها سوى كلمات لم تعد تؤمن بجدواها". تنتقل أولجا إلى ملف على حاسوبها الشخصي لقصة تكتبها من فترة، عن طفلة ناجية من مذبحة. تتداخل قصة "آميديا"، الفتاة الناجية من المذبحة، مع قصة آدم لتصبح هي جدته الناجية من مذبحة حربية.



على مدى سبعة عشر فصلًا، يحمل بعضها قصصًا تكتبها كاميليا، وأخرى يكتبها آدم، وتتشابك مع حكاية عازف البيانو، رفيق أولجا في السكن، وقصة زوجها السابق، الذي يعشق السير بلا هدف، يتماوج السرد بين الإيهام والغوص في قلب الحكاية وبين كسر الإيهام والعودة إلى لعبة الخيال والافتراضات. بعد فترة من الرسائل الالكترنية المتبادلة يدعو آدم كاميليا إلى بيته في سياتل. وهنا يكتسب الاثنان صفات واقعية، كما يقول السرد، "لم يعودا شخصين يتحركان في الفراغ، أو طيفين يهيمان في خيال كاتبة ستينية غارقة في أحلام يقظتها". ولكن سرعان ما يعود السرد ليربك القارئ من جديد. ففي فصل بعنوان "حيث بدأ كل شىء" يعود السرد إلى البداية: "من مقعد خشبي، في باحة متحف على ضفة الفلتافا، بدأ كل شىْ". يعود التنويه بأن الحكايات خطوط متشابكة في خيال كاميليا: "حين حكت لآدم في لقائهما الأول ذاك عن حلم متكرر ترى فيه أنها تكتب قصة – وتشاهدها وتشترك في أحداثها – في الوقت نفسه، اهتم بما ذكرته عن كاتبة روسية وعازف بيانو يحدق في أصابعه، ولم يلتفت إلى كلامها عن عجوز يذرع جسر تشارلز، جيئة وذهابًا، بلا انقطاع".

تدور دوامات السرد، وتبتلع الحكايات بعضها البعض، تتشابك خيوطها وتنفرج لتعود لتتشابك من جديد، وتبقى الحكايات ظلالًا في أذهان كاتبيها وأحلام يقظتهم، لا يكتبونها، وكأنما يأبون كشف أسرار تخصهم وحدهم. في القطار العابر لسيبريا يدون فلاديمير، الرسام وزوج أولجا السابق العاشق للسير، أفكارًا وشذرات للاستفادة منها في تدوين رحلته لاحقا. ولكنه لا يكتب، إنما "بعدها بسنوات، يجد نفسه عاجزا عن فهم " لماذا دائمًا للظلال حضور أكبر من أصولها في مخيلته، وللصدى الأفضلية على الصوت". يٌعد فلاديمير مسودة كتاب "بدأه بفصل سرد فيه ذكرى القبض على الضوء متحدًا بالظل...". في مفتتح الكتاب يُعَبر فلاديمير عن أزمة الكاتب مع الظلال المتراكمة والمتداخلة، عن حيرته على التخوم بين الوهم والحقيقة، وربما يفسر كلامه عنوان الرواية "أخيلة الظل": "النار أم الوهم والدخان. أم ملتاعة تتغذى على ذاتها وتطلق ابنها حرًا في الفضاء، هشًا على وشك التلاشي. وأنا أحلم بحياة من وهم ودخان ينعكسان على مرآة مغبشة، فتتلاشى الحدود وتختلط". ويظل آدم "لسنوات مسكونًا بظله"، الذي اكتشفه في حوض الاستحمام، حين كان طفلًا صغيرًا، "بل ربما لم يفلت من أسره قط". وفي إهداء قصته "ناسك في غابة" إلى كاميليا يكتب آدم: "الظل مرآة يرى الضوء وجهه ممعنًا في غيابه"!
على مدى السرد تتماوج الظلال وتتداخل وتذوب في بعضها البعض، وتصل إلى ذروتها حتى "يخطر لكاميليا... أن تضيف لعبة جديدة لألعابها الذهنية اللانهائية: اختراع صلة بين أشياء لا صلة ظاهرة بينها". وتتحول الكتابة إلى لعبة "دوخيني يا ليمونة"، التي تستعيدها كاميليا في ذاكرتها، يستمتع فيها الكاتب/الكاتبة بالاستسلام "لدوار مغلف بظلال وأخيلة متداخلة. تغيب عن واقعها وذاتها وتفقد ذاكرتها لبرهة، تقترب فيها من لحظة الإفاقة من التخدير بعد العمليات الجراحية...". تعلق كاميليا: "ما أجملها من حالة"!

في الفصل الأخير بعنوان "انتهى قبل أن يبدأ" يكشف السرد أنه "على مقعد خشبي في باحة متحف على ضفة الفلتافا قريبًا من جسر تشارلز انتهى كل شىء، تلاشى قبل أن يبدأ". لم يتواصل الحديث بين الرجل والمرأة، التي "لا تدل ملامحها على عرقها أو جنسيتها". يقرأ الرجل كتابًا تتشابك فيه خيوط الحكايات السابقة، وتواصل المرأة "التفكير في حلم يسكنها، تكتب فيه قصة – وتشاهدها وتشارك في أحداثها...". ويبقى الجميع ظلالًا في حلم راو أو كاتب مجهول، ربما يخشى الكتابة أو يهابها، أو يجدها بلا جدوى في عالم تفوق أحداثه ما يصل إليه الخيال، ولكنه يستمتع بلعبته الذهنية، لعبة الخيال والظلال.

"أخيلة الظل" كتابة عن الكتابة، تلك اللعبة الذهنية التي تتداخل فيها الظلال ويختلط فيها الواقع بالأحلام والأوهام. استطاعت منصورة عز الدين، ببراعة مدهشة، أن تجذب القارئ، تشحذ عقله، وتورطه في لعبتها وتجربتها الإبداعية المثيرة.

نقلاً عن مجلة الإذاعة والتليفزيون

No comments:

Post a Comment