منصورة عز الدين
« ما شعورك وأنت تكتبين
بلغة يُنظر إليها كلغة مقدسة؟»
سؤال وجهه لي كاتب مكسيكي في ندوة قبل سنوات خمس، وبرعونة واستخفاف أجبته
بأن منطق اللغات على تعددها واحد، وأني كي أتحرر من سطوة العربية أحاول نسيان أنها
إحدى أقدم اللغات المستعملة حتى اليوم، وأسعى لتطويعها وإخراجها من حيز المقدس إلى
حيز العادي والمألوف.
كنت كمن ينتقم من كل إخفاقات علاقته بلغة لا يملكها، لأن لا أحد يملك
لغة «أهل الجنة»، «لغة الله».
حدثت السائل عن الازدواج اللغوي بين الفصحى والعامية، عن العامية المصرية
بحيويتها وديناميكيتها وتعددها، وعن أن العربية الفصحى، بالنسبة لي، لغة كتابة لا أكاد
أسمعها في حياتي اليومية، فقط أقرأ وأكتب بها، كأنما استحالت لغة صامتة مستقرة في حروف
ورسوم مطبوعة بين دفتي كتاب.
فعلى العكس من رأي د. إبراهيم أنيس الخاص بأن العربية لغة أذن وليست لغة
عين، صارت الفصحى بالنسبة لي، لغة عين لا لغة أذن، لغة أقرأ بها وأرى حروفها وقلما
أسمعها، ومع هذا حين أكتب مقطعاً روائياً، لا أطمئن إليه إلّا إذا قرأته بصوت عالٍ
بحثاً عن إيقاع داخلي أسعى إليه، فبالقراءة وحدها تبدو لي نتوءات الجمل ومفرداتها الزائدة.
سؤال الكاتب المكسيكي رافقني طوال الوقت. كنت أسأله لنفسي بطرق مختلفة،
كيف ككاتبة، أشعر بحريتي مع اللغة وارتياحي فيها، حين تكون هذه اللغة ليست حرة بالدرجة
التي أتمناها، حين تكون ملتصقة بجذورها أكثر مما ينبغي وغير قادرة على التطور بما يلائم
العصر؟ أو كي أكون دقيقة، لغة تتطور، لكن تطورها الأكثر حيوية يُنظر إليه كمسار غير
شرعي، كلغة مدنسة تشوش على اللغة النقية المشتهاة، والمفارقة أن من ينصبون أنفسهم حماة
لها هم، في الغالب، الأكثر معارضة لتطورها وعصرنتها، أي الأكثر إيذاءً لها.
حلي الوحيد، في هذه الحالة، أن أتناسى قداستها المفترضة، أن أمارس حريتي
في التجول بين مستوياتها وعصورها المختلفة، أن أقرأ «فقه اللغة» للثعالبي كنص فني،
وأن أغوص بالساعات في «لسان العرب» بلا غرض سوى المتعة، وأن أصالح بين المستويات المختلفة
للعربية فصحى أو عامية بحثاً عن معجمي الخاص المتوائم مع إيقاعي الداخلي.
التمرد على اللغة في حالة العربية، قد يتحول فوراً إلى صدام مع المقدس،
لكن ربما ليس لي كمصرية أن أشكو. فالمصريون لهم تراث كبير من التمرد على اللغة العربية
القديمة بل والتمثيل بها وتهجينها بالعامية. هم أيضاً متهمون بعدم إجادة الفصحى وعدم
الإخلاص لها كما ينبغي. أن أكون كاتبة مصرية في الألفية الثالثة، يعني أن هناك معارك
لغوية عديدة حسمها آبائي من الكُتَّاب، أو على الأقل طرحوها للنقاش، بحيث لم تعد مثار
استهجان. لن يتردد روائي مصري شاب، على سبيل المثال، قبل كتابة الحوار بالعامية، يوسف
إدريس لم يكتف باللجوء للعامية كلسان لشخصياته، بل هجّن بها السرد منذ الخمسينات، ويحيى
حقي وصل بالعربية إلى درجة قصوى من السلاسة والدقة والبعد عن الترهل، وتوفيق الحكيم
قدم تجربته في التقليل من صرامة اللغة عبر ما أطلق عليه «اللغة الثالثة، ونجيب محفوظ،
بالرغم من تعاليه على العامية ونظرته إليها كمرض ينبغي التخلص منه، لا يمكن تجاهل الجهد
الذي بذله في تطويع العربية الفصحى وترويضها لتناسب فن الرواية، وتكفي المقارنة بين
لغة بداياته ولغته في أعماله الأخيرة للمس مدى مشقة المشوار الذي قطعه على مدى عقود.
لكن من جهة أخرى، لا يجب نسيان أنه في الكتابة والفن عموماً، لا أحد يخوض
المعارك نيابةً عن أحد. فكل كاتب في ما يخص اللغة التي يكتب بها يواجه تحديات ومشكلات
خاصة به انطلاقاً من رؤيته لعلاقة اللغة بفن الرواية ودورها فيه، وانطلاقاً من علاقته
هو بلغته وغرضه منها.
أشدد على أن من عطايا الفن الروائي للروائيين، أنه يمنحهم الفرصة للتقمص،
ليس فقط تقمص شخصياتهم الفنية بأفكارها ومشاعرها، إنما أيضاً إن أرادوا تقمص اللغة
المفترضة لهذه الشخصيات.
من هنا أنحاز للعامية في الحوار بين الشخصيات، إذ تمنح العمل الروائي
حيوية مضاعفة. والتنقل بين مستوياتها وفقاً لكل شخصية يحقق مزيداً من التنوع ويوضح
الاختلافات بين الشخصيات، فعامية مثقف قاهري تختلف عن عامية ريفية غير متعلمة في دلتا
النيل، وعامية شاب يعيش في الألفية الثالثة تختلف عن تلك التي تتحدث بها شخصية أكبر
في ثمانينيات القرن الماضي، وهكذا.
أشدد هنا، على أن للغة العامية جمالياتها وحمولتها الشعرية الخاصة على
عكس ما يراه كثيرون من محتقريها، ولم يفاجئني أبداً أن الكتاب المصريين الأكثر انفتاحاً
على جماليات العامية كانواً من أكثر الكتاب إجادة للفصحى وتذوقاً لها يحضرني هنا، على
سبيل المثال لا الحصر، أسماء: يحيى حقي، محمد مستجاب، وعبد الفتاح الجمل الذي مثّلت
روايته البديعة «محب» ما يشبه دراسة لغوية إبداعية عن أصول العامية المصرية وعلاقتها
بالفصحى.
في روايتي الثانية «وراء الفردوس»، وهي بالمناسبة أكثر ما كتبت انفتاحاً
على العامية المصرية، كان لدي طموح مجاورة أساليب لغوية مختلفة: الفصحى المحايدة نسبياً
في سرد الراوي العليم، وفصحى ذاتية حميمة في المقاطع التي تكتبها البطلة سلمى، عامية
الحواديت الشعبية في مقطع يتناول حدوتة شعبية مصرية بعنوان «كمونة»، وعامية دلتا النيل
الريفية في الحوار على لسان الشخصيات الريفية في العمل، وأيضاً محاولة محاكاة عامية
الأجانب ممن لا يجيدون اللغة العربية بدرجة كافية من خلال رسالة مرسلة من كريستا الألمانية
لهشام، وهذا الجزء تحديداً كتبته مترددة كأنما أرتكب جرماً.
وأنا أكتب «وراء الفردوس»، كان في ذهني تخيل مفاده أن تجاور هذه المستويات
المختلفة للغة بإمكانه إضفاء المزيد من الحيوية والواقعية والدقة على الرواية. أحب
الفصحى، ولا أتخيل أنني قد أكتب مستقبلاً رواية بالعامية، بل لا أتذوق كقارئة الروايات
المكتوبة بالكامل بالعامية، لكنني ككاتبة أتعامل مع اللغة العربية بمستوياتها المختلفة
بشكل براجماتي بحت، آخذ منها ما يناسب الطموح الفني لكل عمل أكتبه، لست محامية مهمتها
الدفاع عن الفصحى، ولا أهتم كثيراً بالألفاظ القاموسية الجافة ولا إن كانت هذه اللفظة
أو تلك صحيحة تماماً معجمياً واستخدمها القدماء في كتاباتهم أم لا، يكفيني أنها لفظة
حيّة وتسد نقصاً موجوداً في لغة كادت تتيبس بفعل أصولية لغوية تتناسى أن اللغة، أي
لغة، كائن حي إن لم ينفتح على جديد الألفاظ مات. كم من كلمات في اللغة الإنجليزية،
مثلاُ، نحتها كُتّاب ومفكرون وصارت جزءاً أصيلاً من الإنجليزية الحديثة، وكم من كلمات
أخرى تغير معناها من زمن لآخر. يحدث هذا طبعاً وبغزارة في العربية، لكنه يظل في خانة
اللغة «المدنسة» غير القاموسية، هذا إذا اتبعنا على المعيار الذي وضحه السيد رمضان
عبد التواب خبير اللهجات بمجمع اللغة العربية في القاهرة في الاقتباس المذكور في بداية
كلامي.
لم أنشغل بهذا من قبل، لأن العامية ولغة الحياة كانت دائماً تقدم حلولاً
مبتكرة لا أترفع عن اللجوء إليها، لكن حين طُلِب مني أن أكتب نصاً للنشر ضمن أنطولوجيا
أميركية عن ملابس النساء، وقفت وجهاً لوجه أمام عجز اللغة الفصحى عن التعبير عن كثير
من مظاهر الحياة اليوم.. تمثلت مشكلتي في إيجاد مرادفات عربية دقيقة لبعض قطع الملابس
العصرية، العامية المصرية في هذه الحالة تستعير المفردة الإنكليزية، أما أنا ربما لإدراكي
أن النص سوف يُترجم إلى الإنكليزية - فكنت أشعر بالحرج في كل مرة أكتب فيها اسم قطعة
ثياب بالإنجليزية لعدم وجود مرادف عربي دقيق لها.
كأن وعيي بترجمة النص الذي أكتبه للإنكليزية جعلني أرى لغتي الأم في مرآة
لغة أخرى ودفعني للإيمان أكثر بوجوب تقليص الفجوة بين العاميات العربية على تنوعها
وتعددها وبين الفصحى الرسمية، لمصلحة الفصحى نفسها قبل أن تتحول تماماً إلى لغة ميتة
خرساء مسجونة في قواميس يحميها كهنة اللغة.
الخطوة الأولى لتحرير اللغة العربية تتمثل في أن نحتلها، بتعبير هـ. سامي.
عالم، الذي دعا إلى احتلال اللغة في مقال نُشِر في النيويورك تايمز في 21 ديسمبر
2011، وأشار فيه إلى المفارقة الكامنة في اختيار حركة اجتماعية تقدمية مثل «احتلوا
وول ستريت» لمفردة «الاحتلال»، مع كل ما تحمله من دلالات سلبية، عنواناً لها.
لم يُدِن عالِم هذا الاختيار، ولم يطالب الحركة بتغيير اسمها إلى «حرروا
وول ستريت» كما فعل آخرون، إنما توقف أمام كيفية نجاح ناشطي «زوكوتي بارك» في إحداث
تغيير جذري في الطريقة التي يفكر فيها الناس في مفردة «الاحتلال»، إذ قبل سبتمبر
2011 كانت تشير إلى الغزو العسكري، ثم صارت تستدعي إلى الذهن على الفور الاحتجاج السلمي
المناهض للرأسمالية، وتدل على الوقوف في وجه انعدام العدالة وإساءة استخدام السلطة.
لقد ابتكرت حركة «احتلوا وول ستريت» وفقاً لعالم - معنى جديداً لمفردة
قديمة، وحررتها من حمولتها الثقيلة السابقة. وفق هذا المعنى يصير «احتلال اللغة» بمثابة
الاستحواذ عليها وتغييرها من الداخل.
وفي رأييّ أننا أحوج من غيرنا إلى «احتلال اللغة» بالمعنى الذي يقصده
سامي عالِم، أي إعادة تشكيلها واخراجها من معانيها الجامدة إلى آفاق جديدة. غير أننا
كي نصل إلى هذا، علينا أولاً اجتياز مرحلة أولية أكثر صعوبة، هي أن نسمي الأشياء بمسمياتها،
بدلاً من الاستسلام لآليات استخدام اللغة كأداة تضليل وقهر وإفساد، وأن نحرر اللغة
العربية من التعبيرات الخشبية والصيغ الجاهزة والكليشيهات.
وهو ما نجح فيه الشباب من مستخدمي الفايسبوك إلى درجة كبيرة خاصة قبل
ثورة يناير مباشرة وخلال السنة الأولى التالية لها. فبالتوازي مع ثورة الميادين كان
هناك ثورة أخرى على مستوى اللغة، تسعي إلى القطيعة مع لغة فاسدة متواطئة تبناها النظام
السابق، وتنحاز إلى أخرى حيوية دقيقة تعبر الكلمة فيها عن معناها. بدت اللغة على الفايسبوك،
وقتها، مقتحمة مشاكسة وبالغة القسوة والذكاء في تعريتها خراب الواقع السياسي والاجتماعي
والثقافي، وفي سخريتها من كل شيء بما في ذلك الذات والثورة، يحضرني هنا شعار: «الثورة
متنيلة بنيلة مستمرة»!
واللافت أن هذه اللغة كانت تتألق وتصل إلى أقصى مستوياتها التعبيرية خلال
فترات قوة ونجاح الثورة، وتترنح وتميل إلى التقليد والخمول في فترات الاخفاق والتراجع.
لكن بشكل عام، وبعيداً عن 25 يناير، يبدو الفايسبوك المصري، حتى لكثير
من المصريين، كغابة من الشيفرات والطلاسم الغريبة، كأن العامية المصرية تحولت من خلاله،
من وسيلة للتواصل بسهولة مع أكبر قدر ممكن من الناس، إلى وسيلة للتواطؤ المشترك بين
جماعة شبه مغلقة على من فيها.
المفردات تتغير بسرعة هائلة، ولا يمر يوم دون قراءة تعبير لا أفهم المقصود
به في البداية، ثم أكتشف أنه إحالة ضمنية مستلة من فيلم أو مسرحية أو جملة لأحد المشاهير.
هذه «الحيوية» الزائدة عن الحد، تبدو كانتقام هستيري من ثبات الفصحى وجمودها،
بالمبالغة في التغير والاختلاف.
لغة الشباب المصري على الفايسبوك ليست منبتة الصلة بلغتهم في الشارع بطبيعة
الحال، إذ تجد ماضيها في ما أطلق عليه علماء الاجتماع في السابق «اللغة السرية»، لكن
تأمل هذه اللغة مكتوبة ومعروضة علناً بهذه الطريقة يلقي الضوء عليها أكثر ويبرز سماتها
وجوانب غرابتها.
عامية المصريين على الموقع الأزرق خليط من كل شيء وأي شيء، فهي تدين للأفلام
والأغاني والبرامج الشهيرة بكثير من مفرداتها كما أغنتها ثورة يناير بمادة هائلة من
الأحداث والمفردات والتعبيرات التي صارت أشبه بأقوال مأثورة مجرد النطق بها يستدعي
خبرات ومشاعر جمعية حميمة، وبالتالي من الصعب بل من المستحيل ترجمتها إلى الفصحى، لأنها
ليست مجرد كلمات إنما علامات وإشارات لخبرات عاطفية متراكمة ومشتركة.
مقطع من شهادة طويلة بالعنوان نفسه شاركت بها في فبراير 2015 في ملتقى "اللغة العربية وشبكات التواصل الاجتماعي" ببيروت. الشهادة كاملة نُشِرت في كتاب "العربية على محك شبكات التواصل" الذي صدر مؤخراً في بيروت عن جمعية "أشكال ألوان". الكتاب حرره د. أحمد بيضون ومنال خضر، وشارك فيه كل من: د. أحمد بيضون، د. عماد عبد اللطيف، د. فريدريك لا غرانج، هلال شومان، يوسف بزي، رستم محمود ومنصورة عز الدين.
Beautifully written! Thanks for sharing!
ReplyDeleteهايل أ. منصورة 👏👏
ReplyDeleteهايل أ. منصورة 👏👏
ReplyDelete