Sunday, April 17, 2016

باصق التبغ



 منصورة عز الدين

جاءني كرجل في الخامسة والستين ذي وجه متغضن وسحابة مخيمة على عينه اليمنى، يرتدي جلباباً داكن اللون، فوقه بالطو أصفر قديم. يلف سجائره بتروٍ، وقد يمضغ بعضاً من التبغ ثم يبصقه، وهو يلفظ بكلمات مبهمة متبرماً.

كنت أرغب في كتابة قصة تحتويه، لكن جهلي بكلماته المبصوقة مع التبغ أوقفني، إذ كيف أكتب عن شخص لا أعرف ما الذي يمكن أن يقوله في موقف معين؟!

قلت سأراوغ القارئ، وأكتفي بمشهد بصري لا يفصح عما وراءه إلا بجهد ناقد متمرس، قد يتطوع لمساعدتي، فيختلق معانٍ مضمرة، فأبتسم بترفع الراوي المحايد.
لكنّ الرجل ترك ورق "البفرة" والتبغ والتفت إليّ مستهزئاً، فتراجعت، وقررت أن ألم بكل تفاصيل حياته خوفاً من أن يؤذيني ويسبقني، فيحولني إلى حكاية يرويها لزبائنه، والله وحده أعلم بما يمكن أن يدّعيه.

نسيت أن أقول إنه صاحب مقهى، حيث يمتلك كوخاً طينياً، يبعد كثيراً عن أقرب قرية، يرتاده سائقو عربات النقل المارون بالطريق، وعابرو السبيل، ونادراً ما يدخله أحد الأهالي الذين استبدلوا به آخر غير منعزل، يشاهدون فيه مباريات كرة القدم وأفلام الفيديو وما إلى ذلك.

 الخلاصة، هذا المقهى "مُعرَّش" بعروق خشبية نخرها السوس، وأحياناً ما تتسرب من بين شقوقها قطرات مطر ماكرة تتكتك ببطء على الكراسي، و"الكراوِتة" المستندة إلى الحائط، فيزوم صاحبنا، وينظر لزبائنه بقلق.

أغلق الرجل علبة التبغ الصدئة المرسوم عليها جمل كبير يتبعه آخر أصغر منه وبجوارهما نخلة عالية، وخطا إلى الزير الذي كاد أن يتحول إلى اللون الأخضر، رفع غطاءه، ومد الكوز البلاستيكي داخله، ثم قربه من فمه، وتجرع الماء بصوت مسموع، فنحيت قلمي جانباً، واختلست النظر إلى تفاحة آدم المتحركة في عنقه.

عندما عاد لجلسته من جديد، كانت تفاحة من يدعى آدم لا تزال تتحرك أمام ناظريّ، فقررت ألا أدخلها إلى القصة خشية أن تستحوذ على اهتمام القارئ مثلما فعلت معي، فتصرفه عن أمور أخرى أود التركيز عليها كانتحار زوج خالتي.

لا، لم يكن انتحاراً فلسفياً – كما يتشدق الأحمق الذي حوّل عقلي لنفاية بحديثه عن أبطال العبث المغرمين بالكم لا بالكيف – بل انتحار من قطع وريده بشفرة أخفاها طويلاً أسفل وسادته ملفوفة في قطعة ورق مهترئة، انتحار مروع يجلب معه دماءً، وصراخاً، ولعنات مصبوبة على صاحب المقهى العجوز باصق التبغ والسباب.

هذا ما حدث! انتحر الرجل المشلول، فمصمصت جدتي شفتيها وحذرتنا نحن الصغار من أن نخالف ربنا ونرتكب المعاصي كزوج خالتي سائق عربة نقل البضائع، مدمن الخمر الذي اعتاد التلكؤ في غرزة يمتلكها عجوز منكود تقع على الطريق السريع الموصل لبلبيس ليدخن الحشيش والأفيون، فانتقم منه الرب بأن أوحى له بوضع شفرة حادة أسفل وسادته.

تحذيرات جدتي ذهبت هباءً، وإن كانت قد أوحت لي بنسج تفصيلات كثيرة تخص صاحب الغرزة الذي أودى بمستقبل زوج خالتي، فتركها مرتدية السواد صامتة كعهدي بها، وترك أخرى أكثر جمالاً منها تأتي لزيارتها كل شهر. تبكيان لبعض الوقت، ثم تبدآن في الكلام، وتظهر البسمات أولاً على استحياء قبل أن تحتل كامل الوجه.

حينذاك كنت أتمسح في جلباب خالتي مستمتعة بالطقس الشهري، وكم شكرت سائق عربة البضائع الذي أتاح لي وللمرأتين مثل هذه الجلسات المتدفقة، كما شكرت صاحب المقهى الذي تلقى من اللعنات فوق ما يحتمله بشر سواء من خالتي أو من المرأة الجميلة التي كانت تأتي لزيارتها بعد أن تروي الصبّار أمام قبر المنتحر، أو من جدتي التي ظلت تمصمص شفتيها لآخر أيام حياتها قائلةً: "شوفوا ربنا!" كلما جاء ذكر زوج خالتي.

ولأنني أحب أن أشكر الناس بشكل عملي، فقد أمسكت بقلمي متتبعة صاحب الغرزة المنكود الذي أبى أن يستسلم، وفر هارباً بينما ألاحقه بقلم مشرع كالسيف.
احترت هل اختبأ مني فوق شجرة الجميز الضخمة أمام المقهى؟ أم تحت "النصبة"؟ أم في العربة التي تحولت إلى حديد خردة أمام بيت خالتي التي كانت قد حاكت لها غطاء من الشكائر القديمة وقت أن كان زوجها يرقد بالداخل؟

أقنعت نفسي بأن الرجل مختبئ في علبة تبغه الصدئة ذات الجملين والنخلة. فتحت العلبة ففوجئت به يضحك، هل ظنني ألاعبه؟

ما هي إلا لحظات وأجابني ببصقة استجمعها بجهد كبير فأغرقت وجهي. كدت أثور عليه، غير أني امتثلت لصوت الحكمة بأن نظرت حولي يمينا ويسارا فلما لم أجد أحدا في غرفة مكتبي، قررت ابتلاع الإهانة خوفاً من أي تصرف غير محسوب يُغضب الرجل مني، ويجعله يمتنع عن البوح بسر الكلمات المبهمة التي بصقها مع التبغ، أو بسر علاقته بزوج خالتي الذي أصيب بالشلل بعد حياة حافلة بالصخب والنساء والأفيون.

كان مزهواً بانتصاره المتساقط على وجهي، فخرج من العلبة، وجلس كما التقيته أول مرة يلف سجائره بتروٍ. مضغ التبغ لبعض الوقت، فأخفيت وجهي بسرعة إلا أنه بصقه في الناحية الأخرى، وهو يلفظ بكلماته المبهمة متبرماً، فلعنت كل الأشياء لعجزي عن الوصول لكنه ما قيل رغم انصاتي الجيد.


امتدت يدي إلى مناديل "الكلينكس" على المكتب وجففت وجهي بأحدها فيما تربع العجوز أمامي رامقاً إياي بظفر مختلط بالشماتة.

قصة قديمة من مجموعتي القصصية الأولى "ضوء مهتز" - دار ميريت 2001.

No comments:

Post a Comment