Monday, April 4, 2016

كنا شهوداً على إفساد اللغة وإخراج الكلمات عن معانيها



منصورة عز الدين

كنت في قرابة الرابعة من عمري حين تولى حسني مبارك حكم مصر خلفاً لأنور السادات، ربما تكون هذه المعلومة هي أول ما وعيته عن العالم خارج حدود عائلتي. كانوا يسألونني عن اسم الرئيس الجديد، فأجيبهم بفرحة من يعرف معلومة مهمة، ويضحكون هم من حماستي وطريقة نطقي لاسمه.

وطوال ثلاثين عاماً ظلت الإجابة عن اسم رئيس مصر واحدة لا تتغير، لذا أزعم أن الجيل الذي أنتمي إليه والجيل التالي له، يعرف الكثير عن معنى أن يعيش المرء حياة كاملة من الركود والموات. تمر السنوات ولا شيء يتغير: الوجوه نفسها، أو نسخ بديلة أسوأ من سابقتها، الكلمات والأفكار مكرورة، والأحلام تُسرق أو تتحول الى كوابيس.

نحن، أطفال الثمانينات، نعرف الكثير عن اللاشيء واللاأفق، عن خطابات طويلة مستهلكة حول البنية التحتية، والخطط الخمسية المزعومة، و"أزهى عصور الديموقراطية"، و"الضربة الجوية" التي صدّعوا رؤوسنا بها لسنوات، لدرجة أن أحدهم كتب في صفحته على موقع الفيس بوك في الذكرى الأخيرة لحرب أكتوبر: "يا ريته ضربنا إحنا الضربة الجوية وحكم إسرائيل 30 سنة"! هذه الأمنية/ النكتة التي انتشرت بسرعة كبيرة في الصفحات الأخرى كانت لسان حال جيل كامل ملّ الأكاذيب والفساد والتدليس وقرر فجأة الخروج من خانة الأمنيات الى خانة الفعل. جيل كان شاهداً منذ سنواته الأولى على إفساد اللغة وإخراج الكلمات عن معانيها الحقيقية الى معانٍ أخرى مناقضة، بحيث تصير "الحكمة" مرادفاً للبلادة، وتصبح حريتهم المدّعاة مرادفاً للديكتاتورية والطغيان.

"جرّبنا كتير أزهى عصور «الديموقراطية»"، خلينا مرة نجرّب أزهى عصور «الديكتاتورية»، هكذا أخبرني أحد الشباب المتحمسين في طريقه لميدان التحرير. كنت سعيدة به ومعه. الجميع متفائل رغم الدموية والعنف من جانب قوات الشرطة والأمن المركزي، الجميع مصمم على هدفه الأساسي وهو الإطاحة بالنظام الحاكم والمشاركة في خلق مصر جديدة من دون التنازل عن خفة الدم والروح الساخرة رغم صعوبة الموقف. اتسمت الهتافات والشعارات بطرافة ليست غريبة على المصريين، أحدهم رفع لافتة مكتوباً عليها: «عفواً.. لقد نفدت مدتك»، وآخر كتب: «يا مبارك يا طيار.. الطيارة في المطار»، وثالث كتب على صورة الرئيس: «انتهت صلاحيته في 25 يناير». أجواء كرنفالية اتسمت بها المظاهرات الحاشدة بعد انسحاب الشرطة والأمن المركزي ونزول الجيش الى الشوارع، فالقوات المسلحة، حتى كتابة هذه السطور، لم تخيّب ثقة الشعب فيها، على الأقل لجهة عدم دخولها في مواجهة معه واعترافها العلني بشرعية مطالبه. شتان بين الحشود المليونية المنددة بمبارك ونظامه في ظل وجود الجيش، وبين الحشود الهادرة بالمطالب نفسها وهي تعاني من بطش قوات الشرطة والأمن المركزي وعنفها الدموي الذي أدى لسقوط مئات الشهداء وحوّل الشوارع والميادين الى ساحات حرب ضد الثائرين العزّل. منذ البداية، تقمّص مبارك دور الفرعون.. بالغ في تجاهل مطالب الثائرين وترك لحبيب العادلي برجاله المدربين على العنف والتعذيب المنهجي مهمة قهرهم ووأد ثورتهم من دون أن يظهر هو لمدة ثلاثة أيام. بلغ عنف أجهزة الأمن ودمويتها الحد الأقصى يوم جمعة الغضب من دون أن يثير ذلك أي خوف أو تراجع وظل الثوار على صمودهم. ومع نزول الجيش الى شوارع القاهرة مساء الجمعة، بدا واضحاً أننا أمام إعلان فشل النظام وأجهزته الأمنية التي اختفت من كل مكان في خيانة كاملة للشعب لم تشهد مصر مثيلاً لها من قبل. نزول الجيش بدا كأنه بداية لحقبة جديدة مفتوحة على احتمالات شتى.. ورغم كل هذا لم يظهر مبارك إلا بعد منتصف الليل بكلام إنشائي متعالٍ يقفز فوق الحقائق ويؤكد من جديد المدى البعيد الذي وصل إليه من الانفصال التام عن الشعب والاحتقار لإرادته، لذا كان من الطبيعي أن يزيد الشارع اشتعالاً بمجرد انتهاء مبارك من خطابه الأول.

رغم مأسوية الوضع بالنظر الى أن نظام مبارك ومنذ بداية الثورة قد احتجز الشعب المصري كرهينة شبه معزولة عن العالم ومحرومة من أبسط وسائل الاتصال الحديثة، وبالنظر الى دماء الشهداء التي أغرقت الشوارع والميادين، وأعمال السلب والنهب وترويع الآمنين، رغم كل هذا لم يخلُ الوضع من مسحة كوميدية، وإن كانت سمجة وحارقة للأعصاب، تمثّلت في هذه الاستماتة، من جانب مبارك، في التشبث بالكرسي مع ضربه عرض الحائط بمصلحة مصر وإرادة شعبها.

المتابع لصفحات المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي في السنتين الأخيرتين، سيعرف أن نفوسهم تحوّلت الى مراجل تغلي بالثورة والغضب، وإن تلوّن هذا الغضب بالسخرية المريرة القريبة من اليأس.

قبل ثلاث سنوات خرجت جماعة 6 أبريل من الفيس بوك الى أرض الواقع مدشّنة ثقافة الإضراب والتظاهر الشبابي لشباب من خارج دوائر المعارضة التقليدية المتكلسة. وجاء الشهيد خالد سعيد الذي تم تعذيبه حتى القتل على يد الشرطة ليزيد وعي الشباب الصغار بالسياسة. بسرعة البرق أصبح الوجه الوديع الباسم لخالد سعيد أيقونة مصرية على مواقع الإنترنت ودلالة على المدى البشع الذي وصل إليه التعذيب وعدم احترام حقوق الإنسان في دولة تتباهى بأن جذورها تعود الى فجر التاريخ. لا بد أن آلاف المتظاهرين كانت في أذهانهم صورة خالد سعيد وهم يندفعون الى الشوارع والميادين، في طول البلاد وعرضها، خصوصاً أن عيد ميلاده التاسع والعشرين توافق مع يوم الخميس السابق على جمعة الغضب. شخصياً لم تفارقني صورته منذ الثلاثاء 25 يناير وحتى الآن.

فما شهدناه من ثورة شعبية في جميع المدن والمحافظات المصرية أعاد الى الأذهان بقوة كل ضحايا التعذيب وانعدام العدالة الاجتماعية في مصر مثل خالد سعيد وعبدالحميد شتا الذي انتحر قبل سنوات بعدما حُرم من العمل كملحق تجاري رغم نبوغه العلمي بحجة أنه «غير لائق اجتماعياً». لأجل هؤلاء جميعاً ولأجل أمثالهم ممن تم وأد أحلامهم وحُرموا من أبسط حقوق العيش الكريم في ظل تنامي الفساد وازدياد سطوة رجال الأعمال المقرّبين من النظام الحاكم قامت ثورة الغضب. التي بدأت بشباب الفيس بوك وتويتر، ثم توسعت لتشمل الشعب المصري بجميع أطيافه وفئاته. يوم جمعة الغضب 28 يناير وفي قلب الأحداث أدركت تماماً أن الثورة لم تعد ثورة الشباب وحدهم. قبل المظاهرة التي خرجت من جامع عمرو بن العاص قلت لصديقتي هالة صلاح الدين يبدو أننا الوحيدتان القادمتان من أجل التظاهر. ردت بأن الأمور ستتضح بعد قليل. كنت أبحث عمن يشبهوننا، من خريجي الجامعات ومستخدمي الفيس بوك وتويتر، ولا أجدهم. ما أن انتهت الصلاة حتى فوجئت بأن النساء البسيطات المجاورات لي هن أول من هتفن بسقوط النظام. كن يهتفن بحماسة وعزيمة لم أشاهدها من قبل. خجلت من نفسي لحظتها. إذ كيف لم أدرك أن ما يحدث في مصر هو ثورة شعبية حقيقية وصلت الى كل طبقات المجتمع. في مظاهرة أخرى بوسط المدينة رأيت فتاة شابة تبكي بحرقة وتصرخ كأنها فقدت عزيزاً منذ قليل، هذه الجميلة الباكية مثل غيرها من ملايين المصريين إن لم تكن فقدت أحد أقاربها في عبّارة غارقة، فقد يكون احترق في قطار من قطارات الصعيد، أو غرق، في طريقه الى إيطاليا، في أحد قوارب الموت، أو عانى من المرض نتيجة المبيدات المسرطنة ومياه الشرب الملوّثة، أو حتى وببساطة قد تكون مثلنا جميعاً شاهدت عن قرب كيف تُسرق الأحلام وتُحتقر إرادة الشعب ويتم تزوير صوته.

أزعم أن وعياً جديداً تفتّح بين المصريين. طوال الأيام الماضية نتفاجأ ببسطاء ربما لم يذهبوا حتى الى المظاهرات، لكنهم يدركون مغزاها وما تمثله. عامل البناء في البناية قيد الإنشاء المجاورة لبيتي كان يردد بصوت مرتفع لآخر يهاتفه من خارج مصر: «الجماهير صحيت ومفيش مفر من إنه يرحل»، يجادله الطرف الآخر، على ما يبدو، فيرد بفرح واثق: «الثورة مش هاتقف إلاّ إذا تنحى.. صدّقني». طفلتي ذات السنوات الثماني التي رجتني مساء الخميس ألّا أشارك في جمعة الغضب وأن أظل معها، هي نفسها التي سألتني مساء الجمعة عبر الهاتف بعد اضطراري للمبيت خارج البيت: «متى سيرحل مبارك كي تستقيم حياتنا؟». على طريقتها بدأت في التعاطي مع ما يحدث حولها من خلال أسئلة توجهها وإجابات تتلقاها ثم آراء تكونها بناء على ما تسمعه وما تراه على شاشات التلفاز. تتصل بي كل ساعة تقريباً - وأنا في بيت صديقتي هالة المطل على مشهد عنيف مجنون وباعث على الأمل في آن واحد لتعرف معلومات أكثر عن مطالب المتظاهرين وسمات النظام الحاكم في مصر.

قلت لنفسي سوف أخبرها بمجرد عودتي أن الحل لا يتمثل فقط في رحيل مبارك أو الإطاحة بنظام أثبت فشله المرة تلو الأخرى، فالفساد في مصر ضارب في الجذور، وعلى مدى عقود طويلة جداً تحوّل الى نمط حياة. مشاكلنا تبدأ من قاعدة الهرم، من نظام تعليمي مهترئ يساهم في تغييب العقل، ونظام صحي يحتاج الى الكثير من الجهد، ومؤسسات لا تقوم بدورها ومنظمات مجتمع مدني تم خنقها والتضييق عليها طويلاً، ودورنا جميعاً أن نتّخذ من 25 يناير نقطة انطلاق للمساهمة في خلق مصر جديدة أكثر ديموقراطية وعدالة.

لكنني حين عدت لم أجد الوقت الكافي كي أقول لها أياً من هذا، فيوم السبت 29 يناير كان يوماً مجنوناً بامتياز. فمع انتشار عمليات السلب والنهب والسطو المسلح، وبينما يُطلق الرصاص بكثافة أسفل البناية التي نقيم فيها، ويتعالى الصراخ فيما يحاول بلطجية مسلحون تحطيم البوابة الحديدية بالأسفل، لم أستطع، وسط خوفي على نادين ومحاولاتي اليائسة للاتصال برقم الإغاثة التابع للقوات المسلحة، أن أفسر لها حتى سبب انسحاب أجهزة الأمن المفاجئ من كل أنحاء الجمهورية، ولا كيف تم إطلاق السجناء من كثير من السجون المصرية. وبالأساس لم أجد رداً يقنعها حين سألتني عن كيفية تحوّل وظيفة أجهزة الأمن من حماية الشعب الى إطلاق الرصاص عليه والعنف الدموي ضده. أخبرتها فقط أن الاستقرار يتحوّل الى وهم وأكذوبة إذا جاء على حساب كرامة الإنسان وحقه في الحياة الكريمة.


كُتبت المقالة قبل موقعة الجمل (2 فبراير) ونُشرت في جريدة المستقبل اللبنانية (ملحق نوافذ) بتاريخ 6 فبراير 2011 

No comments:

Post a Comment