منصورة عز الدين
"لا أرسم الجميل، بل الذي لا يُنسَى"! قال
سلفادور دالي، وعلى منواله وبالتناص معه لم يطمح الشاعر والروائي والمثقف
الفلسطيني حسين البرغوثي (1954: 2002) إلى كتابة الجميل بل ما لا يُنسَى. الكاتب
الراحل موسوعي الثقافة، الذي لا يشبه إلّا نفسه/ ذاته المتعددة الخلّاقة، عبر
سريعاً تاركاً خلفه أعمالاً عصية على النسيان وآثاراً يقبض عليها قراؤه ومحبوه كما
حاول هو قبلاً القبض على حلم وثني لم يعد موجوداً.
معتمداً على "حدوس وشطحات وتخيلات" ومنصتاً
لمنطق الأماكن، استنطق البرغوثي اللغة للوصول إلى ما وراءها، فتح عينيه على ما فيها
من سحر وطاقة. بالنسبة له اللغة "سحر أسود" ومهارته تجلت في وصف أشياء
ومشاعر وحالات "لم تُخترَع لها لغة بعد".
في حالته الشاعر ساحر؛ عرّاف يستقرئ كوناً وثنياً يغص
بالإشارات والعلامات. تماهى مع تايريزياس؛ العراف الأعمى في أكثر من موضع بـ:
"حجر الورد"، "مرايا سائلة"، و"سأكون بين اللوز"
حيث اعترف بأنه كان ينادي نفسه بتايريزياس. هل اتخذ من هذا العرّاف الأعمى قناعاً
له؟
قناع؟ أكتب الكلمة فأشعر بأنني كقارئة أخون حسين
البرغوثي بشكل ما؛ أُسيء فهمه هو الذي كان هاجسه الممض أن يُساء فهمه. معه لا مجال
للأقنعة السطحية لأنها "ماكياج، حفلة تنكرية، ترف، عمق التجربة هو "صدق
التحول" فيها." فالشاعر "لا يلبس قناع قطة أو ثور أو شبح، مثلاً،
لا، إنه يصير قطة أو ثوراً أو شبحاً."
لا أقنعة هنا، بل وجوه عدة للذات، ومرايا عديدة تتمرى
فيها (الذات) وتكشف عن تعددها وثرائها بل وفصامها وشظاياها.
مع البرغوثي، لا أهمية للتصنيفات المعروفة، لا انشغال
بوضع ما تقرأ تحت لافتة جنس أدبي معين: رواية، شعر، سيرة ذاتية، حيث تتصالح هذه
الأجناس وتسيل الحواجز بينها وتتلاشى، ليتكثف وعيك بأنك تقرأ لكاتب لا يشبه غيره،
كاتب قادر على أن يُنسِيك القواعد المحفوظة والتأطيرات الضيقة، لأنه بدل التضحية
بالحرية ضحى بالقوالب.
في الأول من مايو 2002 رحل حسين البرغوثي بعد معاناة مع
السرطان، كان شبح الموت مخيماً على حياته وقتها، فلجأ إلى ذاكرته إلى حكايات أهله
وماضيهم وجذورهم في المكان/ الجبل. "ربما كنت أتنفس بالحكايات هواء أمكنة
وأزمنة أخرى، لأشعر بفضاء مقمر آخر في داخلي، وأعود إلى "دير جواني" ما،
في روحي، يمنحني قوة البدايات كي أواجه "قسوة النهايات". فالخيال
طاقة." هذا ما كتبه في سيرته الفاتنة "سأكون بين اللوز" التي أعاد
فيها شخصيات "دير جواني" وأشباحه وظلاله إلى الحياة.
وصف البرغوثي عودته إلى رام الله، بالعودة غير المتقنة
أو غير محكمة الحبكة، لكن عودته تلك كانت وسيلته للتحديق في مرايا الذات، ولتفسير
حياته انطلاقاً منها، فحين تساءل عن أية شعبة مشى فيها في بداياته، كانت إجابته
على سؤاله: "ليس في طريق الوضوح، فقد عشت تائهاً ثلاثين عاماً، وليس في طريق
"اللاعودة"، فقد عدت إلى الدير، وبالتالي، مشيت حتماً، في
"الغموض"."
في ذكرى صاحب "الضوء الأزرق"، "حجر
الورد"، "قصص عن زمن وثني"، وغيرها من أعمال، يتوقف "بستان
الكتب" سريعاً أمام حسين البرغوثي وعوالمه ومراياه، على أمل أن يكون لنا وقفة
لاحقة لاحتفاء موسع بصوت فريد لم ينل بعد الاهتمام المناسب لحجم موهبته وثقافته
وإسهامه.
مقدمة "بستان الكتب" بجريدة أخبار الأدب عدد أول مايو 2016.
No comments:
Post a Comment