Sunday, April 3, 2016

الجزيرة.. فكرة الأرض وجوهرها


منصورة عز الدين

في أولى رحلات السندباد البحري وصلت السفينة إلى ما ظنَّه ركابها جزيرة جميلة، استراحوا وأشعلوا ناراً فتحركت الجزيرة المزعومة التي لم تكن سوى حوت عملاق نائم، تسابق الركاب على صعود سفينتهم فنجا بعضهم وغرق البعض الآخر.
ويُهيأ إليّ أنه في عصر الاحتباس الحراري والمشكلات البيئية التي لا تُحصَي، فإن الجزر على إطلاقها فيها شيء من هذه الجزيرة/ الحوت، أي فيها شيء من الخطورة والتهديد بالغرق.
ويكفي فقط أن نتخيل كم عدد الجُزُر التي ستظل صامدة خلال العقود القادمة، إذا صحت النبوءات الخاصة بارتفاع منسوب البحار، في مقابل عدد الجزر التي قد تبتلعها المياه.
لكن بعيداً عن هذه التصورات الكابوسية تظل الجزر قادرة على إثارة الخيال والمثول كفردوس ممكن ومرفأ أمان بعيداً عن ضغوط الحياة وإيقاعها السريع. لكنه فردوس مخاتل قد يحمل بين طياته بعض صفات الجحيم، ويحضرني هنا مثال صغير لطالما انبهرت بجماله المترائي لي من بعيد قبل أن أعاين بنفسي ما يتهدد هذا الجمال من قُبح ومشكلات. المثال المقصود هو جزيرة نيلية صغيرة تُدعى "جزيرة الذهب".
في مواجهة حي المعادي القاهري الراقي تقبع "جزيرة الذهب" هادئة في قلب النيل.
من ينظر إليها من إحدى ضفتيّ النهر سوف يؤخذ بنخيلها ونباتاتها وسوف يسأل نفسه مندهشاً كيف حافظت على عالمها الريفي البسيط كما هو دونما تأثر بقسمي مدينة القاهرة شرق وغرب النيل، فجزيرة الذهب من بعيد وعد بطبيعة نقية وجنة لم يعبث بها الإنسان. مكان ريفي يعيش أهله على الزراعة وصيد الأسماك وتربية الماشية ويقصده الفنانون للتأمل والهرب من الصخب والضجيج.
غير أن التوغل في جزيرة الذهب وعالمها الخاص يكشف أن هذه الجنة المتخيلة تضمر بداخلها جحيماً، إذ لا يوجد في الجزيرة مستشفى أو مدرسة أو قسم شرطة، أو صرف صحي وينتقل سكانها منها وإليها عبر معدية خشبية متهالكة، أي أنها باختصار تفتقر إلى أبسط الخدمات الأساسية ويعاني أهلها من الفقر والإهمال والأمية التي ترتفع نسبتها في الجزيرة الصغيرة إلى 90%، وهي المعاناة التي لخصها أهالي الجزيرة مراراً بقولهم إنهم يشعرون أن جزيرتهم لا وجود لها على الخريطة المصرية.
لا مبالغة في هذه الشكوى، فعزلة جزيرة الذهب الموجعة واختلافها البيّن عن الأحياء المطلة على النيل على مقربة منها، يشعران زائرها أنها تقع في فجوة زمكانية تفصلها عن المدينة من حولها، كأنها عالقة في زمن غابر ومنطقة لا مرئية مهمشة.
قد لا تصلح حالة جزيرة الذهب النيلية الصغيرة معياراً نقيس عليه أحوال الجزر الأكبر في المحيطات والبحار، لكنها بالتأكيد تحوي سمات تدل على جوهر الجُزر وفكرتها، وأقصد بها قدرتها على جمع المتناقضات، على التأرجح بين كونها جحيماً أرضياً وجنة مبتغاة. فالعزلة التي توفرها الجزر والهدوء الذي يسمها والجمال المتمثل في نباتات وشواطئ وطبيعة ساحرة، قد تكون مقرونة بانقطاع عن العالم وصعوبة في الانتقال إلى الخارج، وقلة في الموارد الطبيعية. والامتداد الأزرق الرائق المحيط بها والمكمِّل لجمالية مشهدها هو نفسه الحاجز الطبيعي القاهر الذي كافح أبناء الجزر القدامى لترويضه والتحايل عليه.
هذا الاحتواء على الفكرة ونقيضها بان أيضا في استطلاع سريع سألت فيه قرابة ستين صديقاً عن أول ما يرد إلى أذهانهم ما أن تُذكر أمامهم كلمة "جزيرة" وكم اندهشت حين تشابهت الأجوبة وتمحورت حول نقاط بعينها تعكس ثنائية الجنة/ الجحيم:
ملجأ، مهرب من ضغوط الحياة، عزلة، جنة، روبنسون كروزو، هاواي، استرخاء، إجازة، وحشة، خوف، سجن. لكن كي أكون دقيقة كان من الواضح كثرة الآراء التي عكست الجزيرة كجنة، عن تلك التي قرنتها بالخوف والوحشة والسجن.

من جهة أخرى نجد أنه من اللافت للنظر أن الأصل اللغوي لكلمة "جزيرة" في اللغة العربية يشير إلى هشاشة وعدم ديمومة الجُزر واستثنائيتها، ففي المعجم القديم "لسان العرب" جاء أن "الجزِيرةُ أَرضٌ يَنْجَزِرُ عنها المدُّ. الجزِيرةُ أَرض في البحر يَنُفَرِجُ منها ماء البحر فتبدو، وكذلك الأَرض التي لا يعلوها السيل ويُحْدقُ بها، فهي جزيرة. الجزيرة واحدة جزائر البحر، سميت بذلك لانقطاعها عن معظم الأَرض".
كأن أصل "الجزيرة" أن تكون مغطاة بالماء وتظهر فقط حين ينحسر عنها، كما أن الانقطاع عن معظم الأرض سمتها الأساسية!
لكن هل الانقطاع عن الأرض لا يحوي نقيضه هو الآخر؟ الإجابة تأتينا من تاريخ العالم القديم ذلك العالم الذي مثَّل البحر المتوسط مركزه الرئيسي وموطن كثير من حضاراته، فلطالما لعبت جُزر البحر المتوسط مثل صقلية وسردينيا وقبرص وغيرها دوراً مهماً كنقاط اتصال ثقافية بين الحضارات المختلفة، كما تنافست عليها القوى العسكرية الطامعة في مد نفوذها خارج أراضيها.

تكلمت في ما سبق عن الجُزُر وفقاً للتعريف الجغرافي المحدود، لكن ماذا لو غيرت زاوية الرؤية وجازفت بقول إن الجزيرة هي الأصل، هي فكرة الأرض وجوهرها، وأعني بهذا أن الماء يكوِّن ثلثي مساحة كوكبنا الأزرق، كل اليابسة محاطة بالمياه، وفق هذا المعنى تصبح اليابسة جُزر عملاقة تتخللها جُزر أصغر.
في طفولتي اعتدتُ فتح الأطلس على خريطة العالم والتحديق في المساحة الشاسعة الملونة بالأزرق، تلك التي نطلق عليها البحار والمحيطات، ثم النظر إلى القارات المختلفة المحاطة بالمياه، فينتابني شعور بأن ثمة معجزة ما منعت المحيطات من التمدد وابتلاع اليابسة، شعور كان يتضاعف حين أتأمل الجُزُر الصغيرة التي تُرَّقِّش خريطة العالم وتمنحها بعضاً من السحر، ربما لهذا رسخ في ذهني منذ الصغر أن الجُزُر تعكس هشاشة ما وإحساساً بالتأرجح وعدم الأمان، فرغم الجمال الذي تحويه فكرة وجود قطعة صغيرة من اليابسة وسط محيط شاسع، نراها (أي الفكرة) أيضاً تحوي درجة من خطورة ولو متخيلة ومحتملة.

نُشِرت المقالة في مجلة Kulturaustausch الألمانية.



No comments:

Post a Comment