يعتقدُ فرانز كافكا بأنَّ الكتاب الذي لا يكسرُ جليد الرأسِ ليس
جديراً بأن تُضيع الوقت في قراءته، فعلاً بأنَّ ما لا يخرجُ عن المألوف ولا يُحطّم
أشكالاً سائدة ولا يُشاغبُ أنماطاً تقليدية لا يُضيفُ لك شيئاً، ولا يثير أسئلة
حبلى بنزوع معرفيّة. وهذا ما تراهن عليه الروائية المصرية منصورة عز الدين كلما
تباشرُ بكتابة عمل جديد.
لاقت «أخيلة الظل» آخر إصدارات منصورة عز الدين احتفاءً على مختلف
المستويات، وذلك لما اتّصفت به الرواية من خصائص أسلوبية مميّزة والتماسك البنائي.
وفيما يلي حوار لـ»الجمهورية» مع صاحبة «جبل الزمرد» حول تجربتها الروائية
وقراءتها للمشهد الروائي المصري.
أجرى الحوار: كه يلان محمد
1- يقول مارسيل بروست إن السبيل الوحيد
لحماية اللغة هي مهاجمتها هل يمكنُ وصف روايتك الأخيرة بأنها ثورة على الشكل التقليدي للرواية أو
محاولة لاكتشاف أفق جديد في صياغة الأدب الروائي على غرار ما عمله الغيطاني في (الزينى بركات)؟
-
أظن أن وصفًا مماثلًا يُترَك أمر البت فيه
للنقاد والقراء، ما أعرفه أن "أخيلة الظل" وليدة الضجر من الكتابة التقليدية
ومن عودة البعض لأسئلة فنية عفا عليها الزمن.
2- تتواردُ في سياق رواية (أخيلة الظل)
عباراتُ توهم بإشراك المتلقي في إنجازها لماذا يُمنحُ هذا الدور المركزي للقارئ؟
-
في رأييّ أن المتلقي شريك أساسي في أي نص.
بمجرد صدور العمل يصبح ملكاً لقرائه، وكل قارئ يقوم بتأويله على طريقته ووفق
ثقافته ومرجعياته الخاصة. شراكة القارئ مع الكاتب ليست خصيصة ما بعد حداثية كما قد
يتراءى للبعض، كُتَّاب قدامى من ثقافات مختلفة انتبهوا لهذه الشراكة وخاطبوا
قراءهم المفترضين، كل بأسلوبه، يحضرني الآن مثلاً الجاحظ وثربانتس.
في حالة "أخيلة الظل" المتلقي أكثر
من شريك، هو فاعل لا غنى عنه في إنتاج النص. الرواية مقدمة منذ سطورها الأولى
باعتبارها لعبة. لعبة تخييل؟ أم لعبة افتراضات؟ سيان. المهم أن اللعبة تحتاج إلى
طرفين، إذ ليس بإمكان الكاتب أن يلعب منفرداً. هو في حاجة إلى تواطؤ القارئ
وتسامحه. عليه أيضاً أن يتوارى قليلاً ويتخلى عن مركزيته المفترضة في انتاج النص،
حتى ولو كان هذا التواري مجرد احتيال ومراوغة. فكما يقول جان بودريار: "لا ينبغي أبداً أن يكون اللاعب أكبر من اللعبة نفسها وإلا لفظته".
منطق اللعب يفرض وجود شركاء متواطئين على قواعد معينة للعبة، كما يفرض مساواة –
ولو متوهمة – بينهم. ربما لهذا لم تُكشف هوية من يدير اللعبة ويحركها: كاميليا؟ أم
أولجا؟ أم راوٍ آخر خفي؟
مركزية المتلقي كانت أيضاً محاولة لخلق درجة
من الألفة معه لتقليل ارتباكه أمام لعبة التبادلات والمرايا في النص. هذا غير أن
الإيهام الأساسي في العمل يتمثل في افتراض أن معظمه يقع في منطقة ما قبل الكتابة،
في أحلام اليقظة والتخيلات والأحلام. فكاميليا تحلم بأولجا، وأولجا تتخيل كاميليا
وآدم رافضةً أن تكتبهما لأنها لم تعد تؤمن بجدوى الكتابة.
لكن بعيداً عن كل هذا، أظن أن الكتابة - في وجه
من وجوهها - فعل قراءة. الكاتب يقرأ العالم ويُئوِّله ويقيم العلاقات بين عناصره
بينما يكتب. في المعاجم العربية
القديمة مثلاً من معاني مفردة "قرأ": جمع الشيء وضمه بعضه إلى بعض. وهذا
في ظني يصلح تعريفاً أيضاً للكتابة عموماً ولكتابة الرواية على وجه الخصوص. في
"أخيلة الظل" الكتابة خلق صلات وعلاقات بين أشخاص (وأشياء؟) لا علاقة
ظاهرة بينهم.
3- من الملاحظ تفاعلُ نصك الروائي مع الفنون
الأخرى لا سيما فن السينما والفن التشكيلي وأيضا الموسيقى هل يأتي هذا نتيجة
لإعتقادك بأنَّهُ لم يُعد هناك خطوط فاصلة بين تلك الفنون والأدب؟
-
هذا الأمر يأتي عفوياً، ربما لقناعتي بأن لا
خطوط فاصلة بين الفنون والأدب. الفن التشكيلي والسينما والمسرح والفوتوغرافيا
مكونات أساسية في تكويني ككاتبة. في مراحل مبكرة من طفولتي أرشدتني السينما إلى
كثير من القراءات. عبرها تعرفت على كثير من الكتاب وقرأت لهم، هذا غير غرامي
بجمالياتها الخاصة وجماليات الصورة بشكل عام. علاقتي بالفوتوغرافيا معقدة منذ
بدايتها، لطالما أدهشتني الصور الفوتوغرافية وأخافتني في الوقت نفسه. عبرها انشغلت
مبكراً بفكرة توقيف الزمن؛ إماتته وتثبيته. من ناحية أخرى ذاكرتي بصرية بالأساس،
بل أجازف بقول إن لغتي نفسها كذلك. المشهدية بارزة في كتابتي من أول قصة كتبتها،
إلهامي يحضر في هيئة مشاهد أو صور مقتطعة من سياقها، بعضها لأشياء أو أحداث مررت
بها – ولو عابراً – ثم أكتشف لاحقاً تأثيرها عليّ وقدرتها على تحفيز مخيلتي.
أما بالنسبة للموسيقى، فحضورها نابع بالأساس
من طبيعة شخصيات الرواية والتقنية المختارة لكتابتها. فـ"أخيلة الظل"
تستعير نوعاً من التزامن الموسيقي لتشكيل العلاقة بين شخصياتها.
4- الشخصيات الأساسية في الرواية لا تشغلها
سوى الذكريات وتدوينها كأنكِ أردت بذلك توصيل رسالة وهي أن الإنسان محصلة للإشارات
الصادرة من بئر الماضي على حد تعبير كونديرا هل هذا صحيح؟
-
"أخيلة الظل" - في مستوى من
مستوياتها - مبنية وفق منطق الصورة، إذ تضمر بداخلها ما تتمركز حوله الفوتوغرافيا
من تثبيت للزمن. التثبيت في الرواية ليس تاماً بطبيعة الحال، لكنه أقرب لتوقفات
عند لحظات/ ذكريات بعينها، والتركيز عليها باعتبارها مركزية في تشكيل ذوات
الشخصيات ورؤيتها لنفسها وعلاقتها بالعالم. كأن الذات مضت في طريقها مع حركة الزمن
فيما وقف ظلها أمام نقطة بعينها في الماضي محدقاً فيها ومتأملاً نفسه خلالها. العلاقة
بالماضي مركزية في كتابتي منذ البداية، "متاهة مريم" كانت – بشكل ما -
حوار مريم مع أشباح ماضيها، وفي "وراء الفردوس" ثمة محاولة سلمى
المستحيلة للانسلاخ عن الماضي والقطيعة معه، و"جبل الزمرد" يمكن النظر
إليها كمحاولة لاختراع ماضٍ متوهم يُنظَر للرجوع إليه باعتباره المخلِّص والمصحح
لكل الأخطاء.
من هذا المنطلق أتفق مع مقولة كونديرا، ومع
رؤية ماركيز الخاصة بأن حياتنا هي ما نتذكره منها. الإنسان محصلة كل أفعاله وكل ما
مر به، ونحن لا نعي الأفعال والأحداث بشكل جيد إلّا حينما تمضي، ويصير بيننا
وبينها مسافة تتيح لنا إمكانية الرؤية والاستبصار فيها.
5- شهد فن الرواية في مصر مراحل مُتعددة إذ
كان وراء كل مرحلة اسم أدبي بارز الآن كيف تقييمين منجز الروائي المصري؟
-
من الصعب تقييم منجز الرواية المصرية في
عجالة، فكما ذكرت ثمة مراحل متعددة واتجاهات ومدارس متباينة. هناك أيضًا كُتَّاب
منسيون رغم أهمية ما قدموه. بالنسبة لمشهد الرواية المصرية الآن أراه حيويًا وصاخبًا،
لكن ينقصه الفرز النقدي. ففي خضم الصخب وغياب النقد تتوارى أصوات مهمة خلف الضجيج.
من ناحية أخرى لا تهتم كثير من دور النشر المصرية بتوزيع إصداراتها بشكل جيد خارج
مصر، وتكتفي بالقارئ المصري، وهذا حجَّم من انتشار الرواية المصرية عربيًا
باستثناءات قليلة.
·
نقلاً عن جريدة الجمهورية اللبنانية.