منصورة عز الدين
سواء تحمست لرواية «نهاية السيد واي» للكاتبة البريطانية سكارلت توماس
وأعجبت بحبكتها المحكمة، أو تحفظت عليها بسبب أن الشخصيات في معظمها كان من الممكن
أن تحظى بقدر أكبر من التعميق، فالمؤكد أنك كقارئ سوف تحترم الجهد البحثي المبذول
في الرواية وستقدر مهارة المؤلفة في توظيف المادة الفكرية والعلمية وتضفيرها
بسلاسة في أحداث عملها.
تثبت الرواية الصادرة عن دار التنوير بترجمة لإيمان حرز الله، أكثر من
غيرها، قدرة الفن الروائي على استيعاب ما سواه من أجناس أدبية وفنون بل وعلوم،
وهضمها وامتثالها، فكما تستفيد «نهاية السيد واي» من إسهامات مفكري وعلماء القرن
التاسع عشر وأفكار هايدجر وبودريار ودريدا وغيرهم، نراها تصالح بين أدب الخيال
العلمي والإثارة وبين ما يُطلق عليه «الأدب الرفيع».
في صفحات بعينها تشعر أنك تقرأ رواية خيال علمي صرفة، وفي صفحات أخرى يخيل
إليك أنك تشاهد -عبر الكلمات – فيلمًا هوليووديًا وسوف يخطر ببالك فيلم «ماتريكس» تحديدًا،
لكن الأغرب أنك ستجد نفسك كما لو داخل لعبة من ألعاب الكمبيوتر خاصة في مشاهد
الخروج من الذات والانتقال إلى التروبوسفير.
تبدأ الرواية بانهيار مبنى «نيوتن»؛ أحد مباني الجامعة التي تعمل بها آرييل
مانتو بطلة الرواية. مشهد الانهيار مفرداته كالتالي: ضوضاء، أرض ترتج، أجراس
إنذار، أناس يركضون، ومصاب بآلام الظهر داهمته أزمة قلبية. «هكذا يبدو مبنى نيوتن
الآن، يخر منهارًا على ركبتيه بلا اتزان.
ها قد انهار أحد جانبيه، الآن
الآخر، الآن…… الآن توقف، يصدر صريرًا ويتوقف. تنفتح نافذة بالطابق الثالث على
مصراعيها وتسقط منها شاشة حاسوب لتتهشم على بقايا الفناء الأسمنتي بالأسفل».
هذا المفتتح الأبوكاليبتي يمكن قراءته كمجاز لتحطم العالم كما تعرفه آرييل
مانتو، ولبداية عالم جديد تتعرف فيه على التروبوسفير والسفر عبر الزمن وفي أذهان
الآخرين.
فكما ينشأ الكون وفقًا لنظرية «الإنفجار العظيم» إثر انفجار جسم حار شديد
الكثافة، يولد عالم آرييل الجديد من رحم انهيار المبنى الذي يجبرها على العودة إلى
منزلها سيرًا فتمر بمكتبة صغيرة تجد فيها نسخة من الرواية النادرة «نهاية السيد
واي» للعالم والكاتب الفيكتوري توماس لوماس، تلك الرواية الملعونة المحتوية على
وصفة لتركيبة تمكِّن من يشربها من الانتقال إلى عوالم موازية في التروبوسفير
والسفر عبر الزمن والتسلل لوعي الآخرين، وعليه تختبر آرييل ما سبق ومر به السيد
واي بطل رواية توماس لوماس وربما ما مر به لوماس نفسه، فتكتشف مثلية جارها وصديقها
وولفجانج ومعاناته بسبب تخلي حبيبه عنه، وتفهم قرب نهاية الرواية سر اختفاء
أستاذها سول بيرلوم، وتخرج من جسدها متجولة في أروقة التروبوسفير وتتعرض لمطاردة عميلين
سابقين بوكالة الاستخبارات الأمريكية، وهذا الخيط تحديدًا ما ينحو بالرواية نحو
أفلام التشويق أو روايات «البِست سيللر»، غير أن الحمولة المعرفية التي تستند
إليها، تحميها من الاندراج تمامًا تحت هذا التصنيف.
انهيار مبنى «نيوتن» يُعرِّف آرييل على آدم أستاذ اللاهوت شبه الملحد وأكثر
شخصيات الرواية إثارة للاهتمام، والذي ينتقل إلى مكتبها مؤقتًا ويبدآن تدريجيًا
علاقة عاطفية أبعد ما تكون عما اختبرته آرييل فيما مضى من علاقات جنسية مدمرة.
لا يعنيني هنا سرد أحداث الرواية الشائقة بقدر ما تهمني الإشارة إلى بعض
الأفكار الكامنة بين ثناياها، إذ ثمة جمل ومقاطع مفتاحية لفهم العمل والولوج إلى
باطنه بدلاً من الاكتفاء بظاهره الممثل في الحبكة التشويقية.
من هذه الجمل المفتاحية ما يرد على لسان آدم: «في ظني أن الحقيقة تكمن وراء
اللغة، ووراء ما ندعوه (الواقع). لا بد من ذلك؛ حسنًا إن وُجِد هذا الماوراء
أساسًا».
«الأمس لا يوجد إلا لأننا نتذكره: ليس واقعًا، لا يمكنك أن تثبتي لي أن
الأمس حدث حتى».
«الأمر كله نسج خيال»، يقول آدم كصدى لصوت المؤلف الضمني. نسج الخيال هنا
ليس قصصنا وأفكارنا كبشر، إنما وجودنا ذاته.
المعنى نفسه تكرره آرييل مانتو مستعيرة أفكار المفكر الفرنسي جان بودريار: «نعيش
بمبدأ الشك ونظريات تفتقر لبراهين وفلاسفة يزعمون أن العالم محاكاة… نسخة بلا أصل.
نعيش في عالم حيث لا شيء قد يكون حقيقيًا».
ومثلما بدأت الرواية بمشهد يُذكِّر بأبوكاليبس مصغر، تُختتم بمشهد يتماس مع
الفردوس الأول. تكتب سكارلت توماس في آخر فقرات روايتها عن آخر محطات رحلة آرييل
وآدم في التروبوسفير: «لكننا ندخل حديقة. أجمل ما رأت عيناي، بقدر من الأشجار لم
أره من قبل قط، وعلى حافتها نهر يتلألأ كمرآة. أعتقد أن هذا معقول، أن يبدأ الوعي
في حديقة؛ لأن الوعي نبت، برغم كل شيء. أنظر إلى آدم، لكن لم يعد بإمكاني الكلام
بعد الآن، لست واثقة حتى أن بإمكاني التفكير، وثمة شجرة واحدة، تقف على ضفة النهر
فنسير نحوها. وأفهم».
تفهم آرييل ونفهم معها أن رحلة آدم وآرييل تمثل –بشكل ما– مسارًا عكسيًا
لرحلة آدم وحواء من الجنة للأرض، فبخلاف الأخيرين، يعود آدم وآرييل (الأقرب هنا
لليليت المتمردة منها لحواء) إلى جنتهما ويسيران نحو شجرة المعرفة.
وهكذا مع آخر سطر نستعيد ما تقترحه «نهاية السيد واي» وتوحي به على مدار
صفحاتها، من أن كل شيء بلا استثناء مجرد تصورات ذهنية، نسج خيال، وأن الزمان
والمكان مندمجان معًا، فـ«هذا المكان يوم واحد طويل».
توجد «جنة» آرييل مانتو في نهاية ذلك الفضاء الغامض المسمى بالتروبوسفير،
حيث حافة الوعي، وفي التروبوسفير كما تخبرنا «نهاية السيد واي»: «المسافة هي
الزمن، ولا يوجد موت، (أنتِ) ما تفكرين فيه أيًا كان. المادة هي الفكر. المسافة هي
الوجود، لا شيء يغادر التروبوسفير. بإمكانك على الأرجح اعتبار التروبوسفير نصًا
مكتوبًا. بإمكانك اعتبار التروبوسفير مجازًا».
نُشِرت المقالة بمجلة "أكثر من حياة" الإلكترونية بتاريخ 27 أبريل 2014