الأسلوب الذي ميَّز نبرة الكاتبة المصرية فقد غرائبيّته
السينمائية في «وراء الفردوس»، لمصلحة أحلام تجد تفسيرها في التراث الإسلامي
حسين بن حمزة
نقرأ رواية «وراء الفردوس» (دار العين ـــ القاهرة) للمصرية
منصورة عز الدين، فنحسّ بأننا نقلب صفحات مجلد عائلي ضخم. فكرة العائلة أو السلالة
هي الخيط الذي يضم خرز الشخصيات والمصائر والوقائع كلها تقريباً. الرواية تبدأ من
سلمى، القادمة من القاهرة إلى بيت أبيها في القرية، مدفوعةً بحلم رأت فيه أنها
تقتل جميلة ابنة عمها المقيمة، مثلها، في القاهرة.
سلمى وجميلة ذريعتان سرديتان لرواية تاريخ طويل ومتشعب
لعائلة ريفية ميسورة الحال. الرواية ليست ريفية. الريف حاضر هنا كحاضن واقعي لا
كطموح روائي. كذلك فإن شخصيات عديدة فيها تنتقل بين القرية والقاهرة، وبين ماضي
العائلة وتقاليدها وبين خياراتٍ الشخصية مؤلمة.
سلمى التي تشرف على صفحة مخصصة لنشر النصوص الإبداعية في
إحدى الجرائد، والمتزوجة بـ«ظيا» البريطاني ذي الأصل الباكستاني، تعود إلى القرية
لتفتح صندوقاً أودع والدها مفتاحه عندها. قراءة محتويات الصندوق تترافق مع خطين
رئيسيين في الرواية: في الأول، تُكشف تفاصيل العائلة وأسرارها أمام القارئ من خلال
إعادة سلمى معاينتها. وفي الثاني، نعرف أن سلمى تكتب رواية بناءً على نصيحة من
طبيبتها النفسية بكتابة أي شيء يساعد في علاجها. تتحرك الأحداث وفق تقنية رواية
داخل رواية، فضلاً عن حضور كثيف للأحلام والحكايات الشعبية في ثنايا الكتابة. الأحلام
التي ميَّزت نبرة منصورة عز الدين في مجموعتها القصصية الأولى «ضوء مهتز» تتخلى
هنا عن غرائبيتها السينمائية لمصلحة أحلام مفسَّرة في التراث الإسلامي. الرواية
مكتوبة من وجهة نظر المؤلفة. سنعرف أن جميلة هي ابنة الخادمة بشرى التي تزوجها
العم وطلق زوجته الأولى، وأنها كانت دائماً الوجه الآخر لسلمى. جميلة ترفض الزواج
بهشام رغم أنها تفقد بكارتها معه، بينما تتأزم علاقة سلمى بزوجها الذي يتركها
ويعود للعيش في مانشستر.
حضور كثيف للأحلام والحكايات الشعبية
لا تنجو الرواية من حضور هاتين الشخصيتين. نستسلم في
البداية لفكرة أنّهما بطلتان وحيدتان للرواية بسبب نفوذهما الملموس والخفيّ في
مجرياتها، إلا أن منصورة عز الدين لا تكتفي بالحفر في هذا الموضع رغم ثرائه
وقابليته ليكون رواية كاملة. الثراء الموجود في لعبة المرايا المتبادلة بين ابنتي
العم اللدودتين يحضر بطرق مختلفة في حياة شخصيات العائلة الأخرى، إذ تُبدي صاحبة «متاهة
مريم» مهارة واضحة في توريط القارئ داخل شبكة العلاقات العديدة في الرواية. وإذا
كان الروائيون يفكرون بخلق التشويق لأنه استراتيجية ضرورية للقارئ، فإن التشويق في
«وراء الفردوس» موجود في قماشة السرد نفسه. تقلِّب سلمى تاريخ عائلتها فنصاب بعدوى
عدد من شخصياتها: خالتها لولّا التي حملت جنيناً من مجهول ثم انتحرت بجرعة زرنيخ،
الأب رشيد الذي أدار مصنع الطوب الأحمر بمشاركة عمها جابر، والدتها ثريا، الجدة
رحمة، العمة نظلة، العم سميح، بدر المجنونة التي يربطها أبوها بجنزير لمنعها من
الخروج... لا تروي لنا المؤلفة حكاياتٍ فقط. ثمة طبقات تاريخية واجتماعية تربض تحت
الحكايات. نعرف أن السرد محكوم بلذة الكتابة والتأريخ معاً. الشخصيات هي ابنة
أزمنة ومنعطفات. السبعينيات والثمانينيات هما الماضي الذي تعود إليه سلمى باحثة عن
«فردوس» الدِّعة والطمأنينة. لكن الحنين وحده لا ينقذها من براثن حاضرها. الحياة
ـــــ بحسب الرواية ـــــ هي عملية متواصلة لدفع الأثمان الباهظة للعيش.
نُشِرَت المقالة في جريدة الأخبار اللبنانية بتاريخ 8 سبتمبر 2009
No comments:
Post a Comment