منصورة عز الدين
أي سطوة للصوت على الذاكرة؟
أي سلطة تملكها نبراته
وإيقاعاته على ماضينا وحاضرنا؟
من الصوت تحديداً وُلِدت غواية
الحكي والتأليف:
صوت جدتي العميق الواثق وهو
يطير بي نحو عوالم الجنيات والأساطير وحواديت يمتزج فيها الواقعي بالغرائبي،
والقديم المتوارث بالجديد وليد اللحظة تلبية لشهوة الأحفاد التي لا تُروى للتحليق
في عوالم موغلة في البعد.
صوت العم الأكبر المطمئن وهو
يروي لي يومياً قصة جديدة من قصص الأنبياء ومعجزاتهم في المسافة الفاصلة بين
صلاتيّ العصر والمغرب. برفقة هذا الصوت المحفور في ذاكرتي رافقت، بخيالي، يونس في
أعماق الحوت، ويحيى وقد تحوّل إلى رأس مقدم على طبق من فضة إرضاءً لسالومي، وكليم
الله موسى وهو يشق البحر الأحمر بعصاه إلى نصفين.
صوت العم الأصغر الساخر أبداً
وهو يقص عليّ من خبر السير الشعبية التي يحفظها عن ظهر قلب، بينما يتعجب من ولع
الطفلة الصغيرة التي كنتها بهكذا حكايات حافلة بأبطال قادرين على اجتراح المستحيل
وتخطي حدود الواقع الضيق إلى فضاء الأسطورة الرحب.
مع هذه الأصوات وبفضلها انغرس
في داخلي نهم لا يشبع إلى الميتافيزيقي والعجائبي، وتدرب خيالي على السباحة في
الفضاءات الوعرة للفانتازيا.
لكن بفضل جدتي تحديداً حلمت
بتأليف حكايات وحواديت تخصني. كانت تبهرني ببراعتها في الحكي والتأثير على
مستمعيها الصغار، وبقدرتها على الابتكار في كل مرة تضطر فيها لتكرار حكاية سبق لها
أن قصتها علينا، إذ كانت حينئذ تبتكر طرقاً جديدة كأنما تعيد خلق الحدوتة بحذف
تفاصيل وإضافة أخرى.
بدا الحكي كما لو كان يمنحها
سلطة هائلة، سلطة خالق مجازي يتحكم في مصائر شخصيات مخترعة، ويسيطر على آذان
مستمعيه جاعلاً قلوبهم تخفق على إيقاعات صوته المتماوج بين الهمس والصياح، بين
العلو والانخفاض، بين تصدير الأمل والحماسة أو الخيبة والشجن.
في ما بعد، حين تعلمت القراءة،
كنت أبحث جاهدة، في قراءاتي ولاحقاً في كتاباتي، عمّا يشبه تلك الحكايات الشفاهية
الآسرة، عن كتابة لا تعترف بالحدود الفاصلة بين الواقع والخيال. كنت أيضاً، ولا
أزال، أفتش في الكتابة عن الإيقاع، ذلك السحر المبهم، الذي يعوض صمت الكتابة
ويمنحها بعضاً من ألق وحيوية الكلمات المنطوقة والمتقافزة على الشفاه ناقلةً مشاعر
وأحاسيس من يحكيها وجامعةً، في حالة تمكنه، بين سحر الإبداع الكتابي، والمسرحي
والموسيقي، كأننا في مواجهة عرض كرنفالي مبهج.
بعد كل هذه السنوات، أجدني أفكر
أن أصوات رواة الطفولة كان لها التأثير الأهم على علاقتي بما يحكونه، علاقتي بدنيا
الخيال والإبداع. تختلط التفاصيل، الآن، ببعضها بعضاً، تتوه شخصيات، وتتلاشى
حبكات، وتندغم حواديت الطفولة معاً مكونةّ سحابة من حنين، ولا يبقى واضحاً في
ذاكرتي إلاّ أصوات رواة، غابوا ورحلوا وظلت نبراتهم تناوشني، وتحثني على أن أحذو
حذوهم. أن أتبعهم بدأب على دروب الخيال.
"وحده الصوت يبقى."
على ما كتبت ذات يوم، الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد، رفيقتي على درب الحيرة
والأرق والتساؤلات الموجعة.
نعم يا فروغ، كلامك صحيح فـ"في
الفضاء الكيميائي بعد بزوغ الشمس، هنالك فقط الصوت، الصوت الذي سيجذب ذرات الزمان".
نُشِرت المقالة في زاويتي الأسبوعية بمجلة الصدى الإماراتية.
No comments:
Post a Comment