منصورة عز الدين
لو كانت هذه قصة خرافية، فلن تكون سوى "الجميلة النائمة"، حيث لعنة شريرة تغرق البطلة في سبات لن تخرجها منه إلا قبلة أمير عاشق، تبعث دفء الحياة في أوصالها، وتبعد شبح الموت المتربص بها. لكنّ الحياة ليست قصة خرافية.. هنا والآن، على أرض الواقع، لا ساحرات طيبات، ولا أمير وسيم يجترح المستحيل، وبالأخص لا أميرات ينتظرن المساعدة. رغم هذا ثمة "معجزات" شهدناها تتحقق. فهذا الم
كان المتأرجح دوماً بين الممكن والمستحيل صار يمتهن مفاجأة نفسه والخروج على
السيناريوهات المعتادة.
استيقظت مصر من غيبوبتها بفضل قبلة الثورة، اُزِيل الحاجز السميك الذي كان يفصلها عن الحياة. من حقها الآن أن تختبر
التقلبات التي يمر بها غيرها بعيداً عن خرافة "الاستقرار". ثمة جرح هائل وعليه أن يتطهر من صديده بدلاً من أن يندمل عليه. المشكلة أن الصديد يتكثف ويتكاثر محاولاً احتلال المشهد بكامله. فالجني المخيف الذي حبسه نظام مبارك في قمقم على مدى عقود، وجد نفسه مطلق السراح بفضل ثورة لم يشارك في صنعها، ووجد من يتواطأ معه كي يصبح لاعباً أساسياً في لعبة أرادوها خطرة. السلفيون يهدمون الأضرحة ويطالبون بتطبيق حدود الشريعة الإسلامية. الإعلام يعامل عبود الزمر، بمجرد الافراج عنه، معاملة تليق بزعيم سياسي، وهو لا يفوِّت الفرصة ويقترح انشاء مجلس أعلى للتكفير! أما "الإخوان المسلمون" فيواصلون التحرك بانتهازية بحثاً عن السلطة بأي ثمن.
يشعر معظم من أعرفهم ومن أتحدث معهم بالرعب من هذا الهجوم المفاجئ للسلفيين، يتصرفون من موقع المهددين، كأنما ظنوا أنه بمجرد سقوط مبارك وحبس رموز نظامه ستتكفل الساحرة الطيبة بحل جميع المشكلات بعصاها السحرية. لكنهم في الوقت نفسه يختبرون فرحة لم يجربوها من قبل، فرحة أنهم كانوا، ولا يزالون، جزءاً من تغيير حلموا به وشاركوا في صنعه.
مصر، في لحظتها الحالية، منهكة كأنما أفاقت من غيبوبة طويلة، لكنها حرة ومختلفة وراغبة في الحياة. لأول مرة منذ سنوات أجدني أركز في تفاصيلها، أحدق في مياه النيل، وفي تفاصيل البنايات والبشر، كأنني أستعيد الأماكن والأشياء وأعيد امتلاكها، بعد أن اعتدت طوال عشر سنوات أن أمر بها كمن وجد نفسه مأسوراً داخل يوم واحد رتيب لا تتغير تفاصيله ويتكرر بشكل أبدي. أتكلم مع الآخرين فأجدهم يشعرون بمشاعر مشابهة. نتحرك جميعاً الآن في بلد مرتعش من فرط النشوة والترقب والقلق.
نخطو بوجل فوق بقايا دولة رعب، وفوق ما تبقى من سنوات تعذيب وقمع وقهر. أقول لنفسي: "عليكِ ألاّ تغمضي عينيكِ عن رؤية كل هذا واختزانه. عليكِ العمل على فك الشيفرات المخبأة بعناية خلف كل ما يواجهكِ".
الآن، وهنا، أبسط حركة تبدو كأنما تقترح شيئاً أكبر: صوت يعلو بغتة عن المعتاد، انحرافة خطرة لسيارة في الطريق، أو ضجة مفاجئة. هذه الأشياء العادية في أوقات أخرى يتم تلقيها حالياً كمقدمة لعنف ما أو فوضى محتملة، كـ"مؤامرة" يجب الانتباه لها. تأخذ الأشياء والأحداث أبعاداً مغايرة، وتتسع لتُحمّل بمعانٍ ودلالات أبعد. أيام كهذه تجعلك أكثر حساسية، وأكثر اهتماماً بالتفاصيل، تدفعك للاندماج بالواقع رغماً عنك. لحظات تضعك أمام أسئلة الوجود الكبرى، تحفزك على الحفر في قلبك وأعماقك، وتطرد عنك شبح عدمية اخترتها وأقنعت نفسك قبل الآخرين أنك لا تكترث بشيء، لا يهمك شيء، ولا ترغب في شيء. تغدو مرحباً، على غير عادتك، بالتوهان في صخب مربك وفوضوي.
لا أتحدث هنا عن سيناريو الفوضى الذي كان مرغوباً من جانب فلول النظام المنهار، إنما عن درجة من الارتباك التلقائي، والرغبة في اختبار حدود الحرية المتاحة. بعضنا يبدو كمن يجرب حريته للمرة الأولى مبهوراً بغياب جهة تردعه أو تحاكمه، فيصل بها إلى حد أقصى قد يكشف عن أسوأ ما فيه. هكذا يمكن لمشاجرة عائلية بين اشخاص نعرفهم أن تتحول إلى خطر يهدد سكان شارع بأكمله.
كان عليّ قبل أسبوعين أن أتصل بالنجدة. ربما تكون تلك هي المرة الأولى التي أفعل فيها هذا. أرفض الفكرة في البداية، وأحاول اللجوء لأرقام الاستغاثة التابعة للجيش، فلا يرد عليّ أحد. أكرر الاتصال بلا طائل. كان الرصاص ينهمر في الشارع أسفل نافذتي. استيقظت منزعجة بعد منتصف الليل على وقعه المصحوب بضجيج مشاجرة حامية لم أتبين سببها وأنا بين النعاس والصحو. مع استمرار إطلاق النار، وجدت نفسي مضطرة للاتصال برقم النجدة، ترددت لثوان حين وصلني صوت ودود عبر الهاتف. أبلغته بما يحدث وباسم الشارع، فقاطعني بلهجة مهذبة قائلاً إن كثيرين من الشارع نفسه اتصلوا به، وإن الجيش والشرطة هناك بالفعل!
اندهشت من اللهجة بالغة التهذيب، غير أن دهشتي زالت في الصباح حين عرفت أن لا الشرطة ولا الجيش حضرا لانهاء النزاع رغم الاستغاثات العديدة من سكان المنطقة. السيارة المركونة بجوار سيارتي كانت محطمة تماماً وزجاجها المتكسر كان يفترش أرضية الشارع. حارس البناية حكى لي تفاصيل المشاجرة بابتسامة محيرة. خلاف عائلي بين شقيقين حول شقة، تحول إلى معركة هوليوودية مصغرة بسبب تقاعس الشرطة عن دورها وانشغال الجيش بما هو أهم: قمع المتظاهرين، تعذيب المعتقلين، اخضاع المعتقلات لاختبار كشف العذرية، والثناء على آداء الشرطة كلما سنحت الفرصة لهذا!
استعان أحد طرفي النزاع ببلطجية لترويع الطرف الآخر الذي فضّل لغة السلاح عبر اطلاق نار كثيف استمر لمدة لا بأس بها.
مشاجرة مماثلة في حي آخر راح ضحيتها أربعة قتلى. قبلها بأيام وبينما أقترب من ميدان الدقي، كان ثمة إطلاق نار كثيف في الهواء وتزاحم بشري أعاق سير المرور في الشارع المختنق مرورياً بطبيعته. قوات جيش منتشرة بكامل عدتها، عدد كبير من العسكر يلوحون ببنادقهم بعد ساعة من الاعلان عن قانون منع التظاهر، وجزء لا يستهان به من المتفرجين في الشارع يتابعونهم بإعجاب. "الجيش بياخد حد" هتف سائق تاكسي شاب بابتهاج لا يتناسب مع درامية الموقف. غادرت المكان مسرعة ما أن فتحت إشارة المرور كأنني أهرب من مسرح جريمة. كنت مشغولة بسر هذا الإعجاب الذي تكنه شرائح عريضة من المجتمع للجيش، كأنما وجدت فيه أباً بديلاً. ابتهاج سائق التاكسي ليس حالة نادرة. الأهالي في حي بولاق أبو العلا القريب من الجريدة حيث أعمل، رسموا بمجرد سقوط مبارك، علم مصر في كل مكان، يجاوره وبالحجم نفسه شعار الجيش. قاموا بهذا من تلقاء أنفسهم تعبيراً عن فخرهم بقواتهم المسلحة. كثيرون يعيشون في حالة إنكار رافضين أن يناقشوا أي سلبيات في آداء المجلس الأعلى للقوات المسلحة. صارحتني صديقة بأن هذا خط أحمر بالنسبة لها، وأنها لم تسمح حتى لنفسها بمجرد التفكير في احتمالية أن تباطؤ الجيش في تنفيذ مطالب الثورة كان تواطؤاً. مع توالي الأخبار عن تعذيبه للمعتقلين وتحويله المتحف المصري إلى ما يشبه السجن، صارت تتمنى أن يكون كل ما يحدث "مجرد أخطاء فردية"، وحين صدرت القرارات بحبس مبارك ونجليه ومعظم رموز نظامه على ذمة التحقيقات معهم كانت في قمة سعادتها. "أرأيتِ.. أرأيتِ؟" أخذت تقول لي! كانت تكرر جملتها كأن التكرار سيمحو أي أثر لشكوكها السابقة.
في خضم هذا كله، يكتب لي فيتو من سياتل متفهماً احتمالية ألاّ أرد عليه بينما تضمر كلماته أني أعيش في قلب جحيم إكزوتيكي، ويقترح ماتاييس من برلين أن نشترك سوياً في إنجاز فيلم عن الثورة، أما مينيه فتسأل من اسطنبول عن كنه ما حدث متمنية أن أكون بخير قبل أن تواصل حياتها التي أتابع شذرات منها بين وقت وآخر عبر الفيس بوك.
وحدها بياترس لا تكف عن عقد المقارنات بين مصر وبين وطنها (المكسيك) مطالبةً أن أمدها بمزيد من المعلومات عن بلدي مقابل ما تكتبه لي عن الاوضاع في بلدها، كأننا معاً في مجموعة علاجية مخصصة للشعوب التي عانت من أنظمة قمعية، غير أني لا أرغب سوى في أن أُترَك وحدي للتدرب على إيقاعات حياتي الجديدة. إنها تمارين على الأمل الموجع.. أو بالأدق تمارين على الحياة بعد أن عشت لسنوات، مثل كثير من المصريين، كالمسرنمة.
(ملحق نوافذ.. جريدة المستقبل.. 24 أبريل 2011)..
كان المتأرجح دوماً بين الممكن والمستحيل صار يمتهن مفاجأة نفسه والخروج على
No comments:
Post a Comment