منصورة عز الدين
إذا كان جان جينيه كتب ذات مرة:
«أغامر بتفسير: الكتابة هي الملاذ الأخير لمن خان»، فسوف أغامر بقلب جملته رأساً
على عقب لتصبح: الخيانة هي الملاذ الأخير لمن يرغب في كتابة مغايرة.. خيانة
الوصايا، والآباء الباحثين عن أشباه لهم.. خيانة القناعات السابقة والانتماءات
الضيقة. الخيانة بمعناها الفني والجمالي هي الملاذ الأخير لكثيرين من كتاب الرواية
الجديدة في مصر.
لكن مهلاً، المقدمة السابقة
تحمل من اليقين ما يفوق قدرة الكتابة الجديدة ـ بما تحمله من إعلاء لقيمة الشك
ونسبية المعرفة ـ على التحمل. ألا تقترب بعض الشيء من الصرخة التى أطلقها جيل
الستينيات في بدايته على لسان محمد حافظ رجب: «نحن جيل بلا أساتذة»؟
حسناً سأتغاضى عنها قليلاً وإن
كنت ـ حالياً على الأقل ـ أؤمن بها.
لنحوِّل تعبير «خيانة الآباء» إلى
«اختلاف زاوية الرؤية عنهم»، ربما يكون أكثر دقة، وأكثر ملاءمة للحديث عن موضوع
مراوغ ومن الصعب الإمساك به، كـ«الكتابة الجديدة» في مصر.
يُخيل لي أن الاختلاف الأساسي
بين الكتّاب الجدد والأجيال التي سبقتهم، يكمن بالأساس في اختلاف زاوية النظر
والرؤية. فالأصوات الأبرز في الكتابة الجديدة في مصر تكتب في معظمها من موقع اللا
منتمي. ففي حين كان معظم الكتّاب السابقين يتناولون المجتمع وقضاياه كمنتمين له
يعبرون عنه، نجد أن الكتّاب الجدد يتمسكون بوضعية الفرد اللامنتمي التي تتيح لهم
التعامل مع مجتمعهم بحياد تام أو بسخرية شديدة الأمر الذي يساعدهم على التحليل
البارد لمجتمع شيزوفريني يعيشون فيه مدافعين عن فرديتهم في مواجهة ضغط الجماعة. ينطبق
الأمر ذاته على علاقتهم بما اصطُلِح على تسميته بـ«القضايا الكبرى»، فمع بداية جيل
التسعينيات على سبيل المثال شاع الحديث عن أن كتّاب هذا الجيل لا يكتبون إلا عن
ذواتهم باعتبارها الشيء الذي يعرفونه في زمن سقوط الحكايات الكبرى، وعن أنهم
يخاصمون الأيديولوجيا والقضايا الكبرى، وهي مقولات تمرد عليها كثير من كتّاب هذا
الجيل نفسه في ما بعد، « الأمر لا يرتبط بتقسيم القضايا إلي صغرى، أو كبرى، مهم أو
غير مهم، فهذا التقسيم يعيدنا إلى ذات عارفة ملحة بكل التعريفات والتقسيمات، فكل
القضايا أو الأسئلة تتعامل معها الروايات الجديدة على أنها حكاية من ضمن حكايات
عديدة، لا فضل لها أنها تتصدر صفحات الجرائد أو وسائل الإعلام، فإذا كانت القضية
قضية سياسية مثلا، وتشغل ما يسمى بالرأي العام، فإن حضورها في الرواية يكون من
منظور أنها ابنة تأويل دائم». كما كتب منتصر القفاش في شهادة سابقة له. فكرة كتابة
الذات نفسها تطورت، عبر التخييل الذاتي، بحيث لم تعد مجرد سرد تجارب ذاتية ضيقة.
تجاوز الواقع
العلاقة بالواقع من المعايير
التي يمكننا الاحتكام إليها إذا أردنا الحديث عن «الكتابة الجديدة» في مصر. الكتابات
السابقة في معظمها، كانت تحاول تمثل الواقع ومحاكاته، أما «الكتابة الجديدة» فتتحفظ
على ذلك، إذ يرى كُتّابها أن الواقع بما فيه من تعقد وتشابك لا يمكن رصده بالعين
أو عبر الكتابة البصرية وحدها. كتابة ما بعد الحداثة عموما تشكك فى قدرة العقل
البشري على كشف الواقع بشكل كامل. كثير من الكتاب الجدد لا يسعون لتغيير الواقع
ولا يرغبون في محاكاته، بل يحاولون فقط نقل حيرتهم المعرفية أمامه. الوجود بالنسبة
لمعظمهم هو وجود إشكالي، هش، ومراوغ. والواقع نفسه غير منجز أو بالأحرى غير متفق
عليه، فهو ليس فقط ما نراه بأعيننا ونعيشه بوعينا، بل هو أيضا جماع أحلامنا
وكوابيسنا وهلاوس لاوعينا.
من هنا يمكننا القول إن أهم ما
يسم الرواية الجديدة فى مصر، هو ذلك التوق الشديد لتجاوز الواقع بمعناه الضيق إما
عبر مزجه بالغرائبي أو السخرية الشديدة منه وتحويله إلى ملهاة، أو التعامل معه
بحياد مطلق، أو حتى رميه في وجه القارئ بكل تناقضاته وفجاجته دون أي محاولة
للفلترة.
علاقة الرواية الجديدة في مصر
بالواقع تقودنا فوراً، إلى علاقتها بالمكان، أو المكان كما يبدو فيها. وبطبيعة
الحال تحظى مدينة القاهرة باهتمام خاص في الرواية التي يكتبها الشباب حاليا، غير
أن القاهرة تبدو في حالات كثيرة مغايرة تماما لصورتها الواقعية، لتصبح أقرب لمدينة
متخيلة ومراوغة، أو عدة مدن في مدينة واحدة. فقاهرة طارق إمام في «هدوء القتلة» مثلاً
مدينة غرائبية أقرب لـ«جوثام سيتي» بدون بطلها باتمان، أو هي نموذج مصري ومختلف لـ«مدينة
الخطيئة»، مدينة تبدو «لمن لا يعرفها شديدة الضخامة، غير أن القتلة فقط – وهم
حالمون بالضرورة – يدركون أن ذلك غير صحيح». مدينة شاحبة، تتساوى فيها الفصول
وتليق تماماً بشاعر/ قاتل يكتب قصائده بيده اليسرى ويقتل ضحاياه بيده اليمنى.
أما قاهرة أحمد العايدي في «أن
تكون عباس العبد» فهي مدينة معولمة حيث تنتشر مراكز التسوق العملاقة، وحيث الواقع
الافتراضي يحتل الصدارة فارضاً لغته الخاصة المستقاة من لغة الشارع ولغة الـ«تشات»
ورسائل الـ sms.
تختلف مدينة العايدي تماماً عن
قاهرة ياسر عبد الحافظ في «بمناسبة الحياة» حيث يطالعنا الحي الشعبي «العريق؟» بكل
عنفه وقسوته بشكل صادم لمجتمع يحب أن يرى نفسه كمجتمع متسامح ومسالم في حين أنه
غارق في قسوته وآليات قهره لأفراده.
في «بمناسبة الحياة» تبدو
المدينة كرقعة للحرب بين جيل الآباء الذي عاش في كنف عبد الناصر وحكم العسكر، ثم
ترك موت الزعيم/ الأب أفراده يتامى، وبين جيل الأبناء الكافر بكل شيء والمتمرد على
كل الأفكار المسبقة بما فيها قيمة الانجاز والنجاح. حرب لا تنتهي بقتل الآباء إنما
بقتل الأبناء وقهرهم.
قاهرة عبد الحافظ تتقاطع مع
قاهرة حمدي أبو جليل في «لصوص متقاعدون» في رصدها لحياة مهمشين وصعاليك خارجين على
أعراف «المواطن الصالح»، إلا أنها تختلف عنها في رصدها لحي شعبي هو - على رغم فقره
- من الأحياء المركزية للمدينة. أيضاً يختلف الراوي الأساسي في «بمناسبة الحياة» عنه
في «لصوص متقاعدون» في أنه مديني بامتياز منقطع الصلة بالأصول الريفية لأبيه. أما
راوي «لصوص متقاعدون» فهو المهاجر الذي يشعر دائما بتهديد لا يعرف مصدره، ومكانه
هو ضاحية عمالية أقرب للعشوائية.
أما قاهرتي في «متاهة مريم» فهي
مدينة شبحية ذات إضاءة شحيحة كأنها خارجة من رواية قوطية قديمة.. مدينة تتشابه
شوارعها تماماً كأنها متاهات هائلة تمت حياكتها بيدٍ مدربة مسلمةً العائشين فيها
للعبة التكرار. أو «مدينة من الورق المقوى.. مجرد مبانٍ وشوارع من الكرتون في
انتظار بعض الهواء المشاكس كي يزيحها من الوجود كاشفاً عن الخراب الذي استولى على
جوهرها».
وبعيداً عن القاهرة سواءً
الفعلية أم المتخيلة، تأتي مدينة أحمد ناجي في روايته الأولى «روجرز»، فهي مدينة
تكاد تكون متخيلة من الألف إلى الياء، مدينة ساحلية شمالية تحلق فوقها طيور الرخ،
وتشهد حرباً غامضة وثورة يقوم بها تلاميذ المدراس مستعينين بطائرات سوداء كبيرة
تحلق مستخدمة تقنيات طائر الرخ، و بـ«ماكفير» المولد النووي الذي يعمل بطاقة لا
نهائية. حرب تكاد تتطابق في تفاصيلها مع حروب الرسوم المتحركة.
يتعامل ناجي مع روايته – نشرت
أولاً كرواية تفاعلية على مدونة الكاتب - باعتبارها «لعبة تمتزج فيها الموسيقى
بالهلاوس بالذكريات والسرقات الأدبية غير المشروعة»، لعبة تمتلئ بالتناصات ينصح
الكاتب قراءها في بدايتها: «لممارسة هذه اللعبة بشكل ممتع يرجى الاستماع لألبوم «The Wall» لفريق «Pink Floyd» أثناء
عملية القراءة». الرواية نفسها تحمل اسم «روجر ووترز» مغني الـ «Pink Floyd»
الهامشي
تتسم الكتابة الجديدة أيضا فى
معظمها بالتجرؤ على الكثير من المسلمات القديمة، وإعادة النظر فيها، سواء أكانت
مسلمات سياسية أو دينية أو اجتماعية، وقبل كل ذلك تتسم بالإعلاء من شأن الهامشي
والخافت، بل وحتى ما اُصطلح طويلاً على تصنيفه خارج نطاق الأدب الرفيع.
فالكتابة الجديدة في مصر أعادت
الاعتبار لأنواع أدبية ظلت مهمشة لفترات طويلة، فهي على سبيل المثال وضعت الكتابة
الغرائبية فى مكانة بارزة في المشهد الحالى عبر كتابات عدد من الكتاب الذين رأوا
أن الواقع أصبح ضيقا فسعوا إلى توسيعه عبر الخيال، صحيح أن الكتابة الغرائبية ليست
جديدة تماماً على الكتابة المصرية، إلا أنها لم تكن أبداً تياراً مسيطراً يمثل
ظاهرة إلا في السنوات الأخيرة مع كتّاب مثل: مصطفى ذكري، إبراهيم فرغلي، منتصر
القفاش، طارق إمام، طاهر شرقاوي، نائل الطوخي، كاتبة هذه السطور، وغيرهم.
في السياق نفسه تمت إعادة
الاعتبار إلى الكتابة البوليسية وكتابة الرعب عبر الاستفادة من تقنياتها بعيدا عن
التحفظات القديمة، بل إنها استفادت أيضا من شخصيات وعوالم الكارتون والرسوم
المتحركة و ثقافة البوب آرت، الأمر الذي مثّل خرقاً محموداً لأسطورة الأدب الرفيع
بمفهومه القديم وللفصل الحاد بينه وبين البوب آرت ولكل ما كان يتم وضعه في السابق
في خانة الأدب الخفيف. (ليست مصادفة أن تظهر أول «جرافيك نوفيل» مصرية – وأقصد بها
«مترو» لمجدي الشافعي- على يد كاتب وفنان ينتمي لتيار الكتابة الجديدة).
هذه الاستفادات من الفنون التي
تم التعالي عليها طويلاً ينتج عنها أعمال أدبية بامتياز. فالأنواع الأدبية الخفيفة
بطبيعتها كالرواية البوليسية وروايات الرعب وغيرها هي الأنواع الأكثر التزاماً
بقواعد كتابتها، ونادراً ما يتم فيها التمرد على القواعد المحفوظة والمتوارثة،
وبالتالي تتيح دراستها والتشبع بها تدريبا مثاليا على تقنيات الكتابة المختلفة،
فالرواية البوليسية مثلاً هي الأكثر قدرة على تدريب الكاتب المبتدئ على الحبكة
والإيقاع المشدود المشوق، وروايات الرعب هي الأكثر قدرة على نقل أقصى درجات التوتر
عبر اللغة وحدها. سنلاحظ أن أكثر الكتاب الجدد اهتماما بالحبكة والبناء المركب
والإيقاع المشوق هم من تأثروا بهذه الأنواع. فالخروج علي تقنياتها الجامدة
والتلاعب بها بعد اتقانها يمكنه أن يقدم عملا أدبيا مشوقا مكتوباً بدرجة أكبر من
الحرفية، ومنفتحاً في الوقت نفسه على أسئلة الوجود الشائكة.
إعادة الاعتبار لأنواع تم
تهميشها والتعالي عليها في السابق رافقه أيضا إعادة الاعتبار لآباء محليين لم
يحظوا بالاهتمام الذي يستحقونه مثل: بدر الديب، نبيل نعوم، عبد الفتاح الجمل،
إبراهيم عبد القادر المازني، ورواد الحركة السوريالية المصرية بالفرنسية مثل: جورج
حنين، أحمد راسم، جويس منصور، إدمون جابيس. والقائمة قد تطول وتختلف من كاتب لآخر.
كما رافقه الانتماء لأسلاف
وآباء عالميين منهم ميلان كونديرا، إدجار آلان بو، بول أوستر، بورخيس، خوليو
كورتاثر، وإيتالو كالفينو، بل وحتى كوانتين تارانتينو، ديفيد لينش، ديفيد فينشر،
وفرانك ميللر خاصة أننا في لحظة تتداخل فيها الفنون وتتمازج مع بعضها البعض.
هذا يعيدنا مرة أخرى لفكرة
الخيانة التي بدأنا بها، فهي لا تعني رفض الآباء أو الأسلاف الأدبيين بشكل مطلق،
بل خيانة أسلاف لصالح أسلاف آخرين ينتمون إلى الأسئلة الجمالية التي يطرحها كل
كاتب على نفسه وعبر كتاباته. أسلاف يتبدلون وفقاً لتبدل الذائقة وتطورها.
في النهاية أود التأكيد على أن
ما سبق مجرد ملاحظات كتبتها من موقعي ككاتبة، منحازة بطبيعة الحال لذائقتي وحدها. أى
كمتورطة في المشهد الذي أحاول قراءته، الأمر الذي يسم قراءتى السريعة بنقصان
يضاعفه أن مشهد الكتابة الجديدة في مصر مشهد متغير على الدوام ويتسم بالفوضى
والزخم في آن.
نُشِرت المقالة في جريدة السفير بتاريخ 25 ديسمبر 2009
No comments:
Post a Comment