د. فيصل درّاج
جريدة الحياةالثلاثاء, 25 أغسطس 2009
كيف تكتب الذاكرة عما لا يسيطر
عليه؟ وهل يستطيع المتمرّد المغترب أن يتصالح مع ذاته وأن يتحرر، بعد مساءلة الذات
والماضي، من أزمنة لم يخترها؟ وهل في الكتابة الروائية ما يعطي الوجود شكلاً، أم أن
سديماً لا يروّض يجابه الكتابة ويتركها ناقصة؟ هذه هي بعض أسئلة رواية واضحة
الاجتهاد كتبتها منصورة عز الدين، وأعطتها عنواناً ملتبساً واسع الإيحاء: وراء
الفردوس. أقامت الروائية المصرية عملها على المفكك والمجزوء والمتناثر، وعلى وقائع
يخترقها الانفصال، تعترف بالواقع وتضيف إليه ما ليس منه، وتعتبر ما يستيقظ في
الروح من الهواجس والأوهام واقعاً آخر، أكثر صلابة من الواقع المعيش وأعمق دلالة.
حاورت الروائية ذاكرة هاربة، بصيغة الجمع، وأوكلت إلى الكتابة تنظيم ما يستعصي على
التنظيم، متوسلة سرداً دائرياً، تجاور بدايته ونهايته، ويساكن الغائب والمحذوف فيه
الحاضر وما يبدو محدداً واضح المعالم. صاغت من هذا كله سؤالاً عن «غبش الوجود»،
عمّا لا يرى إلا في آثاره الموجعة، وتركت الجواب معلقاً في الفضاء، يشهد على
اغتراب إنساني لا خروج منه.
تنفتح «وراء الفردوس» (دار
العين – 2009) على مشهد كابوسي، عناصره صندوق من الذكريات والأوراق المورثة وحر
قائظ وثعبان أسود وفأر رمادي سمين وحرباء مشاكسة ولهب متطاول يكاد يمسك بأطراف
امرأة غاضبة أحرقت الصندوق وما فيه، «كي تبدأ من جديد بروح شابة وذكريات أقل
ألماً». يجسّد الصندوق «زمناً عائلياً» بعيداً ومحاولة انفصال يائسة عن الموروث
العائلي الذي لا انفصال عنه. يبدو التحرر من الموروث فعلاً نافلاً مسكوناً
بالمفارقة، فالمرأة التي ترغب به جاوزت الثلاثين، ذلك العمر المتكلّس الذي رسبت
فيه طفولة بعيدة لا سبيل إلى التحرّر منها، وذاكرة المرأة مزّقتها الصدمات وعنف
الحياة الذي لا يرحم أبداً. ولهذا تحرق المرأة الغاضبة يديها ويظل الصندوق،
بالمعنى المجازي، سليماً، تعبيراً عن عجز الإنسان عن أن يعود جديداً، ذلك أن
الجديد الكلي لا يأتي به إلا الموت. ولذلك تنغلق الرواية على امرأة مكسورة الساق،
فما حاولته أصابها بعطب جديد، وبأطياف عانس بلهاء مقيدة إلى جنزير غليظ الصوت،
كانت المرأة الغاضبة، المشطورة الذاكرة، قد عرفتها عن قرب في أيام الطفولة.
تأملت الساردة، المهجوسة بزمن
يرحل ولا يرحل، دلالات الانفصال، الذي يجبر الإنسان على ابتعاد نهائي عن بشر
رحلوا، ولا يتيح له أن ينفصل عما عاشه، قريباً له طعم القش كان، أو موغلاً في
البعد صاحب طفولة مؤرقة. ولهذا يكون للانفصال، في الرواية، إيقاع ثابت: ينفصل
الزوج عن زوجته والفتاة عن أبيها والفتاة العاشقة عن عائلتها والصياد الشاب عن
والده والأسرة عن بيتها القديم، وتنفصل المتمرّدة المعذبة عن ذاكرتها. وللانفصال
أشكال، فهو يحتمل الموت المفاجئ والموت غرقاً والهرب والطلاق والانتحار وعدم
التفاهم وذلك الموت الذي تقضي الشيخوخة.. ولهذا الانفصال آثاره الموجعة، فهو يجبر
الذاكرة على إعادة بناء ما كان من جديد، وهو يملي عليها أن تعيد قراءته وتحليله،
وقد يقودها إلى الانهيار إن كان للراحل منزلة خاصة.
جمع الخطاب الروائي عناصره من
مواضيع عدة: عتمة الزمن الطفولي، أو عتمة الوجود، التي تنطوي على عوالم متعددة،
تطلق الأحلام والأوهام والرؤى والكوابيس، وتنطوي أيضاً على ألوان متعددة متنوعة،
تجمع بين الفردوس والجحيم، ذلك أن الفردوس هو بهجة الألوان، بعيداً عن جحيم أحادي
اللون، أحمر يميل إلى السواد كان، أو أسود يخالطه شيء من الحمرة. وإضافة إلى فردوس
مفقود يجاور الجحيم، يقف زمن راكد بليد، كما تقول الرواية، حيث المجتمع المصري في
العقود الأخيرة، يومه كأمسه وأمسه مريض قاحل لا جديد فيه. ربطت الساردة بين
الزمنين المتصلين والمنفصلين معاً، بزمن ثالث أقرب إلى المجاز هو: «الإعاقة
الداخلية» التي تلازم الإنسان عابرة كل الأزمنة، الصادرة عن طفولة متعددة الوجوه،
كان فيها البيت الهادئ المزنّر بالأشجار المثمرة وعاشقة محي اسمها انتهت إلى الانتحار،
وعانس بلهاء قيّدت ساقها إلى جنزير ثقيل. غير أن الأزمنة، المتصلة والمنفصلة، لا
تحجب سؤال الرؤية الأساسي: ماذا يفعل الإنسان المغترب ذو الروح المتطهرة في زمن
موحل بليد، وهل يستطيع تمرده المتواتر أن يحرره من «عقوبة الماضي»، التي زرعت فيه
إعاقة داخلية متناتجة؟ لا شيء إلا السرد المفكك، ولا شيء إلا هذيان أقرب إلى
الحكمة، يواجه الزمن الاجتماعي الراكد بزمن داخلي متدفق متوتر جارف حارق يأخذ شكل
المرض. أنتجت الرواية، بهذا المعنى، خطابها مرتين: مرة أولى بإشارات سريعة إلى
ماضٍ مثقل بالقيود وإلى حاضر أقرب إلى الجثة، ومرة ثانية، وهي أعمق دلالة وأكثر
إحكاماً، بتقنية أدبية لامعة عناوينها التفكك والتشظي والتناثر، كما لو كان في
جمالية الكتابة الروائية ما يردّ على زمن اجتماعي راكد يورّث الإعاقة والتبلّد.
اتكأت منصورة عز الدين على تقنية فنية خصيبة، وأحسنت استعمالها، منتهية إلى نص
روائي يتاخم الفلسفة، وإلى رؤية عميقة واسعة عثرت على بنية روائية معقدة تلبي ما
تريد.
أكثر من التباس مثمر أنتج عملاً
روائياً يثير الفضول: الروائي العليم الذي يعير ذاكرته إلى الساردة ليضبط ما يجب
ضبطه، ويستعير منها ذاكرة مرهقة تبحث عن فردوس لا يوجد في مكانه، يأتي من «إغماضة
العين» ويتلاشى حين يصطدم النظر بالواقع. وهناك النص الحاضر ـ الغائب الذي يربط،
زمنياً، بين العقد الأخير من حياة المجتمع المصري والزمن الراهن، ذلك أن هذا العقد
لا يطفو في الكتابة إلا ليغيب، ويرى في آثاره ولا يبدو واضحاً في سيرة ذاتية منقوصة
ومفككة. أما الالتباس الثالث فيحيل على اغتراب لا زمن له، يتراءى في ماض أعطب
الحاضر حيناً، ويصدر عن حاضر شوّه الماضي حيناً آخر. إنه الالتباس المثمر، الذي
يعطي نصاً قلق الأسئلة، ولا يسعف القارئ في العثور على جواب أخير.
ما هو ذلك المكان الذي يدعى:
«وراء الفردوس»؟ قد يكون عالم السكينة المشتهاة، أو عالم العزلة المحرّر من
الأصوات البليدة، أوعالم الألوان البهيجة الذي يزور الروح لحظة ويتلاشى في لحظة
لاحقة، مقسماً الفردوس إلى لحظات مفاجئة متفرقة، تبهج الروح وتعود إلى فضاء لا
حدود له.
No comments:
Post a Comment