منصورة عز الدين
من
سطوة الصوت تحديداً وُلِدت غواية الحكي والتأليف عندي!
صوت
جدتي العميق الواثق وهو يطير بي نحو عوالم الجنيات والأساطير وحواديت يمتزج فيها
الواقعي بالغرائبي، والقديم المتوارث بالجديد وليد اللحظة تلبية لشهوة الأحفاد
التي لا تُروَى للتحليق في عوالم موغلة في البعد.
صوت
العم الأكبر المطمئن وهو يروي لي يومياً قصة جديدة من قصص الأنبياء ومعجزاتهم،
لأرافق، بخيالي، يونس في أعماق الحوت، وعيسى وهو يتكلم في المهد، وموسى بينما يشق البحر
الأحمر بعصاه إلى نصفين.
صوت
العم الأصغر الساخر أبداً وهو يقص عليّ ما تيسّر من السير الشعبية -التي يحفظها عن
ظهر قلب- متعجباً من ولع الطفلة التي
كنتها بهكذا حكايات حافلة بأبطال قادرين على اجتراح المستحيل وتخطي حدود الواقع
الضيق إلى فضاء الخيال الرحب.
مع
هذه الأصوات وبفضلها، انغرس في داخلي نهم لا يشبع إلى الغرائبي، وتدرّب خيالي على
السباحة في الفضاءات الوعرة للفانتازيا، لكن بفضل جدتي تحديداً حلمت بتأليف حكايات
وحواديت تخصني. كانت تبهرني ببراعتها في الحكي والتأثير على مستمعيها الصغار،
وبقدرتها على الابتكار في كل مرة تضطر فيها لتكرار حكاية سبق لها أن قصتها علينا،
إذ كانت حينئذ تبتكر طرقاً جديدة كأنما تعيد خلق الحدوتة بحذف تفاصيل وإضافة أخرى.
بدا
الحكي كما لو كان يمنحها سلطة هائلة، سلطة خالق يتحكم في المصائر، ويسيطر على آذان
مستمعيه جاعلاً قلوبهم تخفق على إيقاعات صوته المتماوج بين الهمس والصياح، بين
العلو والانخفاض، بين تصدير الأمل والحماسة أو الخيبة والشجن.
حين
استهوتني عادة القراءة، كنت أبحث جاهدة، عمّا يشبه تلك الحكايات الشفاهية الآسرة،
عن كتابة لا تعترف بالحدود الفاصلة بين الواقع والخيال. كنت أيضاً، ولا أزال، أفتش
في الكتابة عن الإيقاع، ذلك السحر المبهم، الذي يعوض صمت الكتابة ويمنحها بعضاً من
ألق وحيوية الكلمات المنطوقة والمتقافزة على الشفاه ناقلةً مشاعر وأحاسيس من
يحكيها، وجامعةً بين سحر الإبداع الكتابي، والمسرحي والموسيقي، كأننا في مواجهة
عرض كرنفالي ملهِم.
بعد
كل هذه السنوات، أجدني أفكر في أن أصوات رواة الطفولة كان لها التأثير الأهم على
علاقتي بما يحكونه وبالخيال والإبداع بشكل عام. تختلط التفاصيل، الآن، ببعضها
بعضاً، تتوه شخصيات، وتتلاشى حبكات، وتندغم حواديت الطفولة معاً، ولا يبقى واضحاً
في ذاكرتي إلاّ أصوات رواة، غابوا وظلت نبراتهم تناوشني، وتحثني على أن أحذو
حذوهم.
***
بحكم نشأتي في قرية صغيرة، لم تكن الكتب الأدبية متوفرة
في بيت العائلة، فقط القرآن الكريم وكتب فقه وتفسير وتراث كان معظمها مستغلقاً على
فهمي. في المقابل كانت جريدة الأهرام متاحة ببيتنا يومياً، ووقتها؛ أي في بدايات
وأواسط الثمانينيات، كانت الجريدة تستكتب أهم الكُتَّاب المصريين، فعلى صفحاتها
قرأت مقالات يوسف إدريس، توفيق الحكيم، أحمد بهاء الدين، ولويس عوض الذي لا أزال
أتذكر سلسلة مقالاته في الجريدة عن الثورة الفرنسية كأني قرأتها بالأمس فقط.
كان هذا تعارفاً أولياً بهؤلاء الكُتّاب ممن سعيت لاحقاً
لقراءة كتبهم، وبالتزامن مع هذا كان لي زميلة في المدرسة الابتدائية تعمل أمها في
الكويت وتعيش هي مع جدتها، وكانت الأم –ربما تعويضاً عن غيابها- ترسل لابنتها
بانتظام هدايا ثمينة أهمها بالنسبة لي قصص أطفال مترجمة تتنازل صديقتي لي عنها
بمنتهى الأريحية لكونها لا تحب القراءة.
كانت القصص لهانز كريستيان أندرسون والأخوين جريم
ولكُتَّاب آخرين غابت أسماؤهم عن ذاكرتي، كتب بألوان مبهجة ورسوم جميلة نسيتُ
الكثير من تفاصيلها وأحداثها وبقى في ذاكرتي منها شعور بالإشباع كانت تمدني به، وجملة
حيرتني لسنوات وردت في قصة منها. كانت القصة عن الفارق بين المظاهر البراقة
والحقائق المخبأة خلفها، وكتب المؤلف ناصحاً القراء الصغار بعدم الانخداع بالمظهر
مذكراً إياهم أن الثعبان مخلوق جميل الشكل ومبهر المنظر لكنه مخادع ومميت. كنت ولا
أزال أعاني من فوبيا الثعابين ولم أفهم كيف لأحد أن يعتبرها جميلة ومبهرة. انشغلت
لمدة طويلة بتلك الجملة، كنت أنظر لمهنة الكاتب بتقديس، واعتناق كاتب ما لرأي كهذا
دفعني للتعامل مع ما أقرؤه بتشكك ونظرة نقدية، ولتعلم أن أي شيء مهما كان، يحتمل
تعدد الرؤى واختلاف وجهات النظر، حتى لو كان مخيفاً لي وقبيحاً من وجهة نظري،
كالثعابين.
في الوقت نفسه وقعت في غرام الروايات البوليسية لأجاثا
كريستي وآرثر كونان دويل، وفُتنت بوجه خاص بالقديس "سيمون تمبلار" بطل
روايات ليسلي تشارتريس. ومن ثم حاولت كتابة رواية بوليسية وأنا في العاشرة، كانت
محاولة فاشلة تكررت كل إجازة صيف حتى وصلت للثالثة عشرة من عمري. كنت أشتري
كشكولاً بغلاف مميز وأبدأ في صياغة تفاصيل لغز أعجز عن حله أو جريمة أفشل في إيجاد
مبررات منطقية لارتكابها فأنسى الأمر بعد تسويد صفحات قليلة، ويضاعف إخفاقي هذا من
تقديري لمؤلفي الروايات البوليسية وغيرتي منهم في آن.
***
إذا كنت قد أشرت في البداية لدور الحواديت الشعبية
والحكي الشفاهي في توثيق علاقتي بالخيال عامةً والغرائبي منه على وجه الخصوص فثمة
عامل آخر نافسهما في هذا، ودفعني - لاحقاً - لتبني ذائقة أدبية معينة، وأقصد به
موت أبي المفاجئ وأنا في التاسعة من عمري.
بدا الموت ملغزاً ولا إنسانياً للطفلة التي كنتها. لم
أتقبله ولم أعترف به. رحت أنسج في مخيلتي سيناريوهات كفيلة بإعادة أبي للحياة.
هكذا ارتبط التأليف والتخيل عندي بفكرة قهر الموت وتحديه أو على الأقل محاولة فهمه
والتصالح معه.
سيناريوهات طفولية طموحها إحياء الموتى، لا بد لها من
الاتكاء على الغرائبي والفانتازي، كما لا بد لها من تدريب من تتخيلها على ملء
الثغرات وتجويد الحبكة ومنطَقة ما يستعصي على المنطق. رسّخ هذا في ذهني معتقداً
مفاده أن الكتابة لعبة خطرة، فأي خطأ أقترفه وأي ثغرة في السيناريو المتخيل ستؤدي
لتلاشي أبي للأبد، ستجعل فعل استعادته مستحيلاً. كان هذا تمريناً مبكراً على
التخييل والعيش في أحلام يقظة اتسعت تدريجياً لتشمل اختراع عوالم موازية للعالم
الواقعي الضيق ومكملة له.
لكن كيف يمكن لحدث واقعي كالموت أن يُذكر في سياق الحديث
عن التأثيرات الأدبية؟!
الإجابة أنه دفعني في سن صغيرة لقراءات تفوق عمري، وفتح
وعيي على أسئلة شائكة عن معنى الحياة المحكومة بالموت، وعن مغزى وجودنا ذاته وهو
ما انعكس على كتابتي في ما بعد. رحت أبحث عن أجوبة لأسئلتي في كتب دينية وفلسفية،
وفي روايات وسير ذاتية، وشعرت ببعض العزاء لاكتشافي أن ما يؤرقني من هواجس وشكوك
شغل آخرين أكثر ثقافة وأغزر علماً.
هكذا انجذبت في سن الرابعة عشرة تقريباً إلى الوجودية،
وكان الأمر محض صدفة، إذ أهدتني صديقة لي عدداً قديماً يعود لعقد الستينيات من
مجلة العربي الكويتية، وبه مقال (أو ربما ملف. لا أتذكر بالضبط) عن ألبير كامو.
قرأت كل حرف بتركيز تام، وشعرت بقرابة بيني وبين الرجل الذي بدا لي في الصورة
صارماً وحائراً وغاضباً في آن واحد.
أعدت القراءة أكثر من مرة وسعيت فوراً للوصول إلى ما
تيسر من كتب كامو، وعبره تعرفت – بعد سنوات- على سارتر وصمويل بيكيت ويونسكو.
الأسئلة نفسها علقتني بنجيب محفوظ الذي قرأت له لأول مرة
حين أهدى مدرس اللغة الإنجليزية في الصف الثاني الإعدادي، المتفوقين في مادته وأنا
من ضمنهم روايات لمحفوظ، وظل يداوم على هذا مع نتيجة كل امتحان شهري، بحيث انتهى
العام الدراسي وقد قرأت عدداً معقولاً من أعمال محفوظ المهداة لي ولزملائي الآخرين.
اللافت للنظر أن الرواية الأولى التي أعطاني مدرسي إياها
كانت "الشحاذ" الحافلة بأسئلة عن عبثية الوجود ولا جدواه، وربما أدين
لهذه المصادفة بتشجيعي على التهام كل ما قابلني من كتابات صاحب
"الحرافيش".
الرواية الثانية كانت "الطريق" التي لا أزال
أعتبرها أقرب روايات محفوظ لقلبي. تماهيت تماماً مع بطلها صابر سيد الرحيمي في
رحلة بحثه عن أبيه، رأيت فيها رحلتنا جميعاً مع الحياة إذ نعيشها ونحن نطارد ما لا
يمكن بلوغه، ونحلم بالإمساك بما لا يمكن الإمساك به. أتذكر الآن أن أول قصة قصيرة
كتبتها قبل التحاقي بالجامعة بقليل كانت عن طفل ينتظر أباه المتوفي يومياً عند
مرسى القارب الذي ينقل أهل قريته إلى القرى الواقعة على الضفة الأخرى لنهر النيل.
وبعد "الطريق"، جاء دور "السمّان
والخريف"، ثم توالت قراءاتي لأعمال محفوظ تباعاً. وقتها لم أصل بالطبع
للمستويات المتعددة لهذه الأعمال، لكن التعرف على هذا الكاتب مثَّل محطة مهمة
بالنسبة لي، قبله كنت قد قرأت معظم أعمال
تشارلز ديكنز وعدة روايات روسية وفرنسية مترجمة، ولم أكن قرأت أي رواية مكتوبة
بالعربية باستثناء روايات بوليسية من سلسلتيّ "رجل المستحيل"، و"ملف
المستقبل"، ونتيجة لهذا كان لديّ اعتقاد ساذج مفاده أن أحداث الروايات
الأدبية تقع حصراً في مدن مثل: موسكو، سان بطرسبرج، لندن، وباريس. وشخصياتها تحمل
بالضرورة أسماءً من قبيل: أوليفر، إيفان، مستر روتشيستر، نيقولاي وكاترينا.
مع نجيب محفوظ تابعت شخصيات وأحداثاً من صلب الحياة
المصرية والعربية. وقدّرت تنقله من مرحلة أدبية لأخرى ومثابرته على تطوير لغته
وتقنياته كأننا أمام أكثر من روائي في شخص واحد.
***
لا أتذكر أول كاتب من جيل الستينيات قرأت له، لكن ما
أتذكره جيداً أني تعرفت عليهم من الأعداد القديمة لمجلة "إبداع" التي
كنت أشتري مجموعات منها بأسعار مخفضة من فرع الهيئة العامة للكتاب بمدينة طنطا،
وفي إحدى المرات وجدت هناك أعمال محمد البساطي (التاجر والنقاش، المقهى الزجاجي،
والأيام الصعبة) فلم أتردد في شرائها بعد أن كنت قرأت له قصصاً متفرقة وأعجبتني.
كنت
في المرحلة الثانوية، واعتبرت نفسي محظوظي لأن الصدفة قادتني لقراءة كاتب مماثل،
ولو كنت سُئلت في ذلك الحين عن كاتبي المصري المفضل كنت سأجيب بلا تردد بأنه محمد
البساطي. تُصنَّف كتابة البساطي –في معظمها- ككتابة ريف، لكن ما لفت نظري أن الريف
عنده ليس هو ما ألفته في أعمال كتاب آخرين، كما يختلف عن الريف الذي كنت أعايشه، إذ
نجد أنفسنا مع البساطي أمام مكان تخييلي يقف على التخوم بين الواقعي والغرائبي.
مكان موسوم بالوحشة والعزلة كأنه منقطع عن
العالم ومنذور للنسيان.
تعاطفت
مع أبطال البساطي الماكرين الذين لا يستسلمون لعواطفهم، ويواجهون أقداراً صعبة
وحيوات خالية من الأحداث الكبيرة بلا شكوى أو ضجيج. يقاومون واقعهم الخشن بخشونة
مماثلة وبأقل قدر من الحنين أو الانفعال، وفي هذا تحديداً مكمن تفردهم كشخصيات
فنية انحفرت في ذاكرتي ودفعتني – كقارئة - للتفكير مراراً في دوافعها الخفية.
كان
كأنما يكتب بممحاة، ويعتمد على الحذف أكثر من الإضافة. يهندس أعماله بدقة مفجراً
شعريتها عبر الحوار الخفي بين عناصرها. لغته المقتضبة المتقشفة ظاهرياً تحمل
شحنة شعرية عالية. كل مقطع هو مشهد بصري يدفعنا لرؤية
صور تتحرك أمامنا كلوحات تشكيلية أو مشاهد متتابعة في فيلم سينمائي.
أحببت
في كتابته أنه لم يكتب عن الضوء بل عن ظلاله، لم يكتب عن الصوت بل عن أصدائه في
النفس، ولم يكتب عن الحدث بقدر كتابته عن آثاره المراوغة وغير الملموسة.
حين انتقلت في سن الثامنة عشرة للدراسة والإقامة في
القاهرة، كان أول ما فعلته هو السعي إلى المكتبات للبحث عن أعمال كتابي المفضلين ومن
بينهم محمد البساطي الذي اشتريت مجموعته القصصية "ضوء ضعيف لا يكشف
شيئاً"، وروايته "صخب البحيرة" من دار شرقيات للنشر. بقراءتي لهذين
العملين ومعهما مجموعته القصصية "منحنى النهر" قررت البحث عن طريقة
لمقابلة مؤلفي المفضل، غير أن هذا لم يحدث إلاّ بعد عامين حين تخصصت في دراسة
الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة واقترحت اجراء حوار مع محمد البساطي لجريدة
"صوت الجامعة" التي تصدرها كلية الإعلام.
قابلته في أحد مقاهي وسط البلد في جلسة امتدت لما يقرب
من خمس ساعات، لم أترك خلالها تفصيلة في عمل له إلاّ وسألته عنها، وفي نهايتها
فوجئت به يطلب مني أن يقرأ لي. اندهشت لأني لم أذكر له أن لي محاولات في الكتابة،
فأخبرني بأنه استنتج هذا من أسئلتي. أعطيته سبع قصص قصيرة وفي ذهني أني قد لا
أقابله بعدها، لكن هذا اللقاء كان بداية صداقة استمرت لسنوات، إذ تحمس للقصص وأرسل
إحداها لإبراهيم أصلان كي ينشرها في جريدة "الحياة"، وقدمني لأصدقائه من
الكتاب باعتباري موهبة يراهن عليها.
خلال سنوات الجامعة تلك كنت أجلس بالساعات للقراءة في
مكتبة "مبارك العامة" في الجيزة (تغير اسمها بعد ثورة يناير إلى مكتبة
مصر العامة)، كانت وقتها أحدث المكتبات العامة في القاهرة وتميزت بقربها من
الجامعة وباحتوائها على تشكيلة مهمة من العناوين الجديدة. فيها قرأت أعمال أشهر
الكتاب والشعراء العرب مثل الطيب صالح، أنسي الحاج، محمود درويش، محمد الماغوط،
محمد شكري، عبد الرحمن منيف، سعد الله ونوس وإميل حبيبي الذي وقعت في غرامه ولا
زلت أعتبره من كتابي المفضلين وأرى أن روايته "الوقائع الغريبة في اختفاء
سعيد أبي النحس المتشائل" من أهم الروايات المكتوبة بالعربية.
بالتزامن مع هذا، وعقب تعرفي على البساطي، بدأ يعيرني
-من مكتبته الخاصة- كتباً يراها واجبة القراءة. من بين هذه الأعمال روايات ياسوناري كاواباتا وكونديرا وتوني
موريسون و"السيدة دولاواي" لفرجينيا وولف، و"اخضرت الأرض"
لكنوت هامبسون، و"الجندي الطيب شفيك" لياروسلاف هاشيك، وأعمال ماركيز
باستثناء "مئة عام من العزلة" التي كنت استعرتها قبل ذلك من صديق
وقرأتها كاملة في يوم واحد من السادسة صباحاً حتى الواحدة بعد منتصف الليل، لأن
صديقي هذا طلب مني أن أعيدها له في اليوم التالي مباشرة.
كانت روايات ماركيز قريبة لفكرتي عن الكتابة خاصة لجهة
الخيال الجامح، ومع هذا كان ثمة حاجز غامض يقف حائلاً بيني وبينها، أعجبت طبعاً
بقدراته كحكاء بارع، ومتمكن من تقنيات الكتابة ومتحكم في إيقاع أعماله، لكن كان
ثمة مسحة من غنائية لديه مصحوبة باحتفائه المبالغ فيه بالحدوتة كغاية في حد ذاتها،
جعلاني أنظر لكتاباته نظرة نقدية مبكراً. بالطبع لم أضع يدي على هذا بوضوح إلاّ مع
قراءة بورخيس وخوليو كورتاثر، حيث الغرائبية مقرونة بأسئلة شائكة وأفكار مقلقة،
وحيث التجريب والولع باللعب الفني في أعلى صورهما.
لكن يهمني هنا الإشارة إلى أن التأثيرات الأدبية لا تعني
تقليد كاتب ما لكاتب آخر بقدر ما تعني تعرف هذا الكاتب على كُتّاب مهمومين بأسئلته
نفسها، ويقدمون اقتراحاً كتابياً قريباً من رؤيته للكتابة. وباستعارة كلمات بورخيس
في مقاله "كافكا وأسلافه"، يمكن قول إن كل كاتب يخلق أسلافه.
***
ثمة أعمال توقفت أمامها بإعجاب، وعشت بداخلها كما
لو كنت شخصية فنية من شخصياتها، أهمها أعمال كافكا، وديستوفيسكي، و"بدرو
بارامو" لخوان رولفو، و"ثلاثية نيويورك" لبول أوستر، و"رباعية
الأسكندرية" للورانس داريل، و"المعلم ومارجريتا" لميخائيل بولجاكوف
و"الطبل الصفيح" لجونتر جراس، لكن لو اخترت كتاباً واحداً باعتباره
الأمتع بالنسبة لي والأكثر تأثيراً عليّ، فسوف أختار "ألف ليلة وليلة"
دون تردد، فـ"الليالي" كتاب ثري متنوع منفتح على ثقافات عديدة، وحكاياته
جامحة، ماكرة، شريرة (بالمعنى الإيجابي)، لا توفر أحداً، ولا تبقي على هيبة أحد.
تسخر من الجميع وتظهر نواقصهم وتتلاعب بهم لاهية عن كل شيء إلاّ الإخلاص لمقتضيات
فن الحكي.
بالنسبة
لي شهرزاد -ساردة الحكايات في صمت الليل- كاتبة بشكل أو بآخر. ليس هذا فقط، بل
سأجازف بقول إن في كل كاتب ذكراً كان أم أنثى لمحة من شهرزاد. ثمة التوق نفسه
والرغبة في التأثير في شهريار مفترض هو القارئ وإغوائه. الكتابة -في جزء منها-
عملية إغواء، والكاتب الجيد هو ذلك الذي يجيد إغواء القارئ بالكلمات بحيث يدفعه
للهاث خلفه من حدث لآخر ومن شخصية إلى أخرى.
من
جانب آخر لطالما فتنتني الفكرة الخيالية التي مفادها أن الكلمة يمكنها أن تنقذ
حياة إنسان، وأن الثقافة قادرة على قهر السلطة الغاشمة. الحكاية المروية ببراعة
قادرة على حقن الدماء، والحفاظ على الممالك، وفك السحر الأسود. هذا بالضبط ما
تخبرنا به "ألف ليلة وليلة"، ذلك الكتاب المكرس بكامله لمديح فن الحكي،
والاحتفاء به بوصفه الفعل الأكثر امتاعاً وجلباً للتسلية والعِبرة.
يحلو
للكثيرين حصر شهرزاد في دور المرأة المراوغة التي تتنتقم لبنات جنسها من شهريار
الدموي، لكن في ظني أن شهرزاد الليالي تتجاوز هذه القراءة الضيقة، لأن حكايتها
أبعد من العلاقة/ الصراع بين الرجل والمرأة، إذ تتعداها لآفاق أرحب تتمثل في سلطة
المعرفة وقدرتها على التغيير.
"المعرفة
مُحرِرة"! هذا هو الدرس الأهم للّيالي من وجهة نظري. وشهرزاد تقدم، وفق هذه
القراءة، أمثولة المثقف الذكي في مواجهة السلطان الجائر، إلاّ أن قدرة المعرفة على
التحرير لا تتوقف في ذلك النص الفاتن على شهرزاد وحدها، إنما تكاد تتكرر في كل
حكاية من حكايات اللّيالي، إذ تتناسل "الشهرزادات" ويتعدد الرواة
البارعون في سرد حكايات مخلِّصة.
ما
أن نطأ، كقراء، عتبة اللّيالي مطمئنين إلى أن شهريار ابتلع الطُعم ووقع أسيراً لما
تسرده شهرزاد، حتى نقابل سحر الحكي في حكاية التاجر والجني. فثلاث حكايات لثلاثة
شيوخ ستفتدي التاجر، المحكوم عليه بالموت من جانب الجني، وتمنحه حياة أخرى لأن كل
شيخ طلب من الجني أن يهبه ثلث دم التاجر إذا أعجبته الحكاية المروية له. وهو ما كان.
وفي
حكاية الملك يونان والحكيم دوبان تغدو المعرفة/ الكتاب وسيلة الحكيم للقصاص من غدر
الملك. ومن صفحة لأخرى نقرأ أمثولة المعرفة المحرِرة بأشكال مختلفة. نقابلها أكثر
من مرة في حكاية "حاسب كريم الدين" إحدى أمتع حكايات الليالي وأكثرها
إثارة للخيال، كما نستشفها بين سطور رحلات السندباد السبع. ونتلمسها عبر معكوسها
في حكاية حسن البصري. هكذا نجد أنفسنا أمام أكثر من شهرزاد، وأقصد بهم الرواة
العديدين الذين حملوا عبء الحكي عنها مراراً، وسمحوا لها أن تتخفى وراءهم، وتصنع
منهم قرناء لها ومرايا تعكس صورتها بلا انتهاء. هكذا تبدو "ألف ليلة"
بكاملها، أشبه بمرايا مخاتلة تعيد عكس ثيمات وأمثولات، يكرر بعضها بعضاً أحياناً، وتترك
القارئ مفتوناً يتمرأى فيها لاستخلاص ليس المتعة فقط، وإنما أيضاً الحكمة والعظة،
وإلاّ لماذا كانت جملة "حكاية لو كُتِبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة
لمن يعتبر" جملة مفصلية لوصف الحكايات العجيبة والمهمة؟
نُشِرت المقالة مترجمة للإنجليزية في مجلة بانيبال
No comments:
Post a Comment