منصورة عز الدين
لسبب لا أعلمه، كان أبي مولعًا بالأبواب!
وأنا طفلة صغيرة، كان من السهل
عليّ أن ألحظ ولعه بساعات اليد الفخمة، وبقداحات السجائر، وحافظات النقود التي ظلت
متناثرة فى أرجاء مختلفة من بيتنا بعد وفاته بسنوات، غير أنني لم أنتبه لهذا الاهتمام
المقارب حد الهوس بالأبواب إلا حين كبرت.
كانت الأبواب أكثر الأشياء
توفرًا فى بيتنا.
الحديقة المحيطة بالبيت حظيت
وحدها ببوابتين ضخمتين من الحديد المشغول بعناية. بوابتان لا يفصل إحداهما عن الأخرى
سوى أقل من مترين! والأغرب أنهما كانتا مفتوحتين على الدوام، كأنهما مجرد فتحات
كبيرة مهمتها عرض البيت والحديقة أمام المارة، وتحويلهما من مكان للسكن إلى مادة
للفرجة.
البيت نفسه خصه أبي بثلاث
بوابات أخرى، أو كي أكون دقيقة ببوابتين وباب خشبي كبير. البوابة الأولى تقود إلى "فراندة"
شاسعة، والبوابة الثانية –التي اعتبرها المدخل الرئيسي للبيت ولم نستخدمها قط-
تدخل الزائر إلى بهو صغير يواجهه بعدها باب أكثر إنسانية يسلمه إلى الداخل، أما
الباب الخشبي الكبير فكان بلا نفع تقريبًا، إذ بقى مغلقًا معظم الوقت كأنه مجرد امتداد
لجدران البيت.
الباب فاصل/ واصل بين
المجالين العام والخاص، بين عالم الداخل وعالم الخارج، وأبي الذي اعتاد قضاء معظم وقته خارج البيت، انحاز إلى عالم الخارج.
فترات مكوثه القصيرة في البيت
قضى معظمها جالسًا فى "الفراندة" مراقبًا العالم بالخارج، والمارة فى
الطريق عبر البوابات المشرعة، كأنه يرغب في أن يكون بينهم.
يحيّونه في مرورهم، فيدعو
معارفه منهم للدخول، يلبي بعضهم دعوته، فتتلاشى حدود الداخل والخارج، وتصبح
"الفراندة" ومعها البيت مجرد محطة لاستراحة العابرين.
بعد وفاته بسنوات، وحين قررت أمي
تجديد البيت، بدت الأبواب الكثيرة والفائضة عن الحاجة عدوها الأول. تخلصت من
كل ما هو غير ضروري منها. كانت امرأة عملية، لا تستسيغ الاستعراض، ولا ترغب في أن تكون
موضوعًا للفرجة.
على العكس من أبي، انحازت أمي إلى
الداخل وأرادت بيتًا آمنًا لا مضيفة للعابرين. وضعت بصمتها الأنثوية عليه وعلى
أبوابه، ووقتها فقط أصبح أخيرًا بيتها هي.
أحيانًا كانت تشعر بالذنب كونها
مسحت لمسات أبي لتضع لمستها هي متمردةً عليه،
في هذه الأوقات اعتادت أن تردد باستنكار كأنما تقنع نفسها بصواب ما فعلته:
"مش معقول كل دى أبواب مفتوحة.. هو مسرح؟!".
لا أتذكر أنها انتقدت الأبواب
المشرعة دائمًا، إلا بعد أن تخلصت من معظمها، وأحكمت إغلاق ما تبقى منها. عرفت الأقفال
طريقها لبيتنا، واستبدلنا بزجاج النوافذ والأبواب الشفاف الذي اختاره أبي بنفسه، آخر لا يكشف عمّا وراءه.
فى الأدب ارتبط تحرر المرأة
واستقلاليتها بالباب المفتوح، فنورا بطلة "بيت الدمية" غادرت بيت زوجها
ثورفالد هيلمر مصفقة الباب خلفها، بحثًا عن حريتها بعد أن أدركت أنها كانت مجرد
دمية يمتلكها، وليلى بطلة لطيفة الزيات مثّل لها "الباب المفتوح" معبرًا للخروج إلى العالم الواسع، وتحقيق كيانها كأنثى عصرية مستقلة.
غير أن فتح الباب والخروج منه
ليس دائمًا الطريق الوحيد كي تعلن المرأة استقلالها وتكرِّس فرديتها، بالنسبة
لأمي، على الأقل، كان الطريق المضاد هو الإعلان الأمثل عن ثورتها على ذكورية
بيتنا، والخطوة الأولى لوضع بصمة أنثوية عليه.
No comments:
Post a Comment