منصورة عز الدين
في هذه اللحظة، بينما تنقر
أصابعي أزرار لوحة المفاتيح، تواصل فتاة الليل الكينية في قصة بارسيليلو كانتاي
"واكتوها" رحلة انحدارها، وتستمر العجوز كاتيا في مصارعة مرض ألزهايمر
وفي انزلاقها نحو خرف الشيخوخة في قصة الأمريكي أليكس روز "الكسرة
الأثرية"، ولا يتراجع بطل قصة تي كوبر "السباحة" عن هروبه، في
كمبوديا، في أحضان امرأة جميلة لا يحبها، مواصلاً كعادته العيش على مضض، لكن هذه
المرة بجرح لا يقدر على مواجهته، بعد أن تسبب في مقتل ابنه. شخصيات وحيوات تم
تثبيتها في لحظة واحدة، وكادرات لن تخرج عنها، لتبقى في الذاكرة كما أراد لها
مؤلفوها، وإن حصلت على استقلاليتها بعيداً عنهم.
لحظات الأفول إذن هي ما يجمع
قصص "حواس مرهفة"، المجموعة القصصية التي ترجمتها هالة صلاح الدين عن
الإنجليزية وتضم نصوصاً لثمانية كتّاب لم يتم تقديمهم من قبل في اللغة العربية. في
بداية قراءتك للكتاب، ستتساءل حائراً، عمّا يربط قصة عن أفريقيا ما بعد الاستعمار،
بأخرى تجرى أحداثها في مجتمع يهود بروكلين، وما الصلة بين امرأة أربعينية مهجورة وخالية
من الأنوثة تنقلب حياتها بعنف ذات ليلة وسط جليد كندا في نص ستيفن هايتن
"الموتى المرئيون"، وبين جندي بريطاني شارك في حرب الخليج الثانية وخرج
منها محطماً يحيا نصف حياة في نَص جرام جويس "جندي عادي من جنود
الملكة". لكن القراءة المتمهلة ستكشف الروابط الخفية الواصلة بين شخصيات
النصوص وعوالمها.
بارسيليلو كانتاي، كما يبدو من
قصته التي تفتتح الكتاب، كاتب يجيد الإغواء، إذ يعرف جيداً كيف يثير فضول القارئ ويدفعه
للّهاث خلف أحداث قصته محاولاً ربط التفصيلة بالتي تليها كي يرسم بنفسه اللوحة
النهائية لعمل لا يكشف للقارئ عن خباياه بسهولة. بداية من العنوان "واكَتُوها"
نقف حائرين أمام ما يعنيه، إلى أن نعرف أنه اجتهاد شخصي من المترجمة ينطوي على
تشويه لكلمة "وجدتها"، فكما اختار كانتاي لقصته عنوان "You wreck her" وهو نطق خاطئ لكلمة "Eureka"
أي "وجدتها"، اختارت هالة صلاح الدين أن تشوه الترجمة العربية للكلمة خاصة
أن الفعل اكتوى قد يسهم في تصدير الايحاء بالتدمير والتحطيم اللذين يحملهما الفعل wreck بالانجليزية.
القصة المروية بضمير المخاطب،
تبدأ بالبطلة مع أحد زبائنها من الأوروبيين في سيارة مركونة بموقف سيارات الدعارة
المخفور برجال الشرطة! قبل أن يفاجئهما رجل شرطة "كاريو" يشتبك مع
الزبون الأوروبي مهدداً إياه بالحبس، يُدخلنا كانتاي على الفور في القلب من مشهد
صاخب حافل بتهديد متبادل وأزيز رصاص يحطم زجاج السيارة، قبل أن يعود بنا في لقطات
رشيقة مستعرضاً حياة بطلته وكيف وصلت إلى لحظتها الحالية. في السادسة عشرة من
عمرها، كانت طويلة أزيد من اللازم، نحيلة أزيد من اللازم، داكنة أزيد من اللازم،
ولا فرصة لديها أمام طابور طويل من الجميلات قصيرات القامة بنيات اللون ممن يحظين
بالزبائن المميزين ويخبرنها أن كل ما يسعها توقعه من الشارع هو
"الزبالة" مثلها مثل اللقلاق الذي تشبهه.
غير أن البلجيكي جورت، الجندي
المرتزق السابق، كانت له نظرة أخرى، إذ وجد في اللقلاق مبتغاه المناسب للتصدير
للميديا الغربية باعتبارها طفلة مقاتلة من السودان وليدة اغتصاب الجنود لأمها التي
ماتت أثناء المخاض جراء وابل من الرصاص. ولأن الدراما جعلت الناس يحبونها كما
أخبرها جورت، انتشرت صورتها وهي تلبس شوكاً بالياً وتحمل بندقية صدئة على أغلفة
المجلات الغربية وعلى جوانب الحافلات. قبل أن يتوقف العالم فجأة ومعه جورت عن
حبها، لأن السودان لم تعد بقعة ساخنة وانتقلت "الدراما" إلى أنجولا موطن
فتاة جورت الجديدة، لتعود اللقلاق في النهاية إلى موقف الدعارة من جديد، حيث
قابلناها في أول القصة مع المزونجو المرتبك إذ يصوب إليه الـ"كاريو"
فوهة مسدسه، قبل أن نعرف في آخر فقرة أن الكاريو ما هو إلاّ شريك اللقلاق الجديد
في النصب على الزبائن وتجريدهم مما معهم، ثم تنطلق رصاصة فيحل الصمت بالعالم. كانتاي،
إذ يصور برهافة، كيف تتلقف أوروبا الصورة النمطية لأفريقيا كقارة فقيرة مزقتها
الحروب، يشير من طرف خفي إلى أن "الضحية" أيضاً قد تتعاون مع مستغلها
عبر سلسلة من التواطؤات لا تخلِّف إلا الخيبة والمرارة، لكنه ككل الكتاب الجيدين
لا يلجأ للمباشرة، إنما يتركنا لنكمل الفراغات، وينشغل هو بالامساك البارع بخيوط
لعبته السردية.
وإذا كان السرد يتحول إلى لعبة
شيقة في قصة كانتاي، فإن اللعب يصل إلى مستوى آخر في قصة أليكس روز "الكِسرة
الأثرية"، إذ يتماهى الكاتب مع شخصية لاعب يلهو بقطع "بازل" عبر
فقرات قصيرة أشبه بحقائق علمية جافة تقطع خيط السرد، وتجعلنا نتساءل عن علاقتها
بالقصة، قبل أن يلتئم في النهاية المستويان السرديان معاً، ويدفعانا إلى إعادة قراءة
النص من جديد بعيون أخرى، لنخطو مع عجوزه كاتيا خطواتها الأولى في سديم النسيان،
حيث تخبو حياتها على مهل وتتسرب الذكريات من رأسها فتروح تخلط الأزمنة والتفاصيل
بعضهها ببعض. تبحث عن نظارتها التي كانت معها منذ قليل، تتذكر للحظات شذرات من
طفولتها كلاجئة يهودية فرت من أوروبا الشرقية إلى نيويورك، قبل أن تعود إلى متاهة
الحاضر الباهت حيث بدأ زوجها جو يشك في سلامة قواها العقلية.
وفي قصة "القتلة"
لليونارد مايكلز، تتلصص مجموعة من الصبية من موقعها فوق السطح القصديري الحارق
لإحدى بنايات بروكلين، على الحاخام الشاب وزوجته الفاتنة في لحظاتهما الحميمة. نعرف
أن التلصص على الزوجين الشابين عادة مفضلة لدى الصبية، إلاّ أن الحاخام يضبطهم
متلبسين بجرمهم هذه المرة، وبفضل صلاته يرسلهم إلى معسكر في نيوجيرزي كي يعيشوا
فيه تحت إشراف مرشديه من محاربي الحرب العالمية الثانية القدامى. "حمل بعضهم
شظايا قنابل داخل أجسادهم. حوى رأس أحدهم رقيقة معدنية. ومهما قلت لهم، لاحوا
كأنهم يتفكرون في شيء آخر، حتى وإن أجابوك". نقرأ القصة فيُخيل لنا أن الراوي
لا يزال راقداً في ظلمة المعسكر ينصت إلى "صوت الظلام وهو يُزهر، يتفتح داخلك
تفتح الثغر"، بعد أن توارت إلى الأبد مرحلة من حياته حافلة بالعبث والتسكع.
يُختَتم الكتاب بقصة
"اكتشاف الوطن" للكيني بينيافانجا واينينا، وهي وإن بدت للوهلة الأولى
بعيدة عن مزاج باقي القصص، سرعان ما نكتشف أنها المتممة لها. قصة واينينا تستفيد
من أدب الرحلات وأدب السيرة الذاتية، وتأخذنا في رحلة بين ربوع أفريقيا المعاصرة،
إذ تبدأ من كيب تاون، قبل أن ينقلنا الكاتب إلى نيروبي ومنها إلى أوغندا الموطن
الأصلي لأمه. وُلدت القصة من رسالة إلكترونية
كتبها المؤلف لأحد أصدقائه يصف فيها رحلة إلى أوغندا، وبعد أن ماتت أمه اشتغل على
النص من جديد، وأهداه إلى روحها. تعيد القصة رسم صورة "الوطن" من جديد
بعيداً عن الأفكار النمطية، ولا يكف الكاتب عن عقد المقارنات بين مرحلة انتهت من
تاريخ القارة السوداء وأخرى بدأت، لينقل إلى قارئه عدوى المقارنة بين واقع كينيا
وأوغندا وواقع بلداننا في لحظتها الحالية. يكتب واينينا عن أوغندا أنها دولة
"لم تصل فحسب إلى قعر حفرة أحياناً ما تقع فيها الدول، وإنما نبشت ذلك القعر
بأظافرها وسقطت مراراً وتكراراً سقوطاً لا كابح له، وقد أعادت بناء نفسها الآن
وتخلصت تماماً من الكراهية. يبث فيّ هذا البلد أملاً بأن هذه القارة قادرة على ضبط
نفسها". أقرأ هذا فلا يسعني إلاّ التفكير في مصر الآن، فتبدو إفريقيا واينينا
بمثابة مرآة نرى فيها أنفسنا.
إلى جانب القصص الأربع المشار
إليها هنا، تقدم القصص الأربع الأخرى تنويعات مختلفة على لحنيّ الأفول وإعادة
الاكتشاف، وتضعنا نصوص الكتاب ككل وجهاً لوجه أمام الخافت والهامشي والمتواري. إنه
كتاب قرأته بكثير من الذاتية والتواطؤ، وراقبت شخصياته وهي تأفل على مهل.
* "حواس مرهفة"
مجموعة قصصية لعدد من المؤلفين، ترجمتها عن الإنجليزية وقدمت لقصصها هالة صلاح
الدين، صدرت عن دار البوتقة للنشر والتوزيع بدعم من الصندوق العربي للثقافة
والفنون.
No comments:
Post a Comment