منصورة عز الدين
يروض محمد البساطي الألم بالكتابة!
وحيداً، في انتظار فحوصات طبية لا تنتهي، ينسى مؤقتاً البؤرة الخبيثة التي
نمت داخل كبده في غفلة منه، ويستجيب لإغواء شخصيات وعوالم غامضة تناديه كي ينتشلها
من العدم. منذ بداية مرضه - الذي أخفاه عن الجميع - كتب ثلاث قصص قصيرة، ويدندن
ببدايات رواية. «الكتابة تخرجك من كل الظروف المحيطة» يقول.
الكاتب المعتاد على روتين حياتي نادراً ما يخرج عليه، فوجئ بخيانة كبده له.
يريد أن ينتهي من هذا الحدث «الطارئ» بسرعة أياً ما تكون النتائج. بطريقته نفسها
في الكتابة، يقارب موضوع مرضه. الراوي المحايد، المهيمن على أعماله، يطل علينا من
جديد حين نسأل راغبين في الاطمئنان. يكتسي الصوت المألوف والمحبب بنبرة ذلك
الراوي، فيبدو صديقنا كأنما يتحدث عن مرض شخصية فنية ينضجها على مهل في مطبخه
الكتابي.
«سأجري أشعة مقطعية خلال أيام. خضعت لعملية قسطرة للتخلص من بؤرة سرطانية
في الكبد عبر الكي. ويرغب الأطباء في التأكد من عدم وجود بؤر أخرى».
ـ «خائف؟» أسأله دونما مواربة، فيصمت حتى أظن أنه لن يرد.
يجيبني بحذر بعد تفكير عميق: «لم أفكر في أي شيء حين عرفت حقيقة مرضي. أصبت
بالذهول، لأنه لم يخطر على بالي من قبل أني قد أمرض، فما بالِك بهذا المرض الخطير.
لكن بعد المفاجأة الأولى تعتادين الأمر».
يخطر لي لحظتها أنه يرغب في استئناس هذا الوحش المرعب، أو بالأحرى استئناس
فكرة وجوده في جسده، كأنما بهذا سيحوله إلى تفصيلة بسيطة من تفاصيل روتينه اليومي
الصارم. سيحيده، مواصلاً الإنصات إلى الأصوات الخافتة لشخصيات أعماله؛ هؤلاء
المنسيين، الوحيدين، العائشين على حافة الوجود، دونما ضجيج أو شكوى.
من يعرفون البساطي جيداً، سيلاحظون على الفور، خفوت حس الدعابة الذي يميزه.
اكتسب صوته جدية متوجسة، لكنها سرعان ما تنهار حين يبدأ في استعادة طفولته التي
ظلت المنبع الرئيسي لإبداعه. تعود لمسة المرح إليه، ما أن أُذّكره بحكاية من
طفولته سبق أن سمعتها منه. يبدأ في الحكي عن جده الألباني رستم حسين أغا الذي قتل
ثأراً لشقيقه ثم فر إلى مصر التي دخلها مع حاشية السلطان حسين كامل، ليعمل ناظراً
في تفتيش زراعي في قرية مجاورة لـ«الجمالية» مسقط رأس البساطي. حين سمعت حكايته عن
جده هذا لأول مرة، قبل سنوات، ظننته يخترعها اختراعاً، كما يختلق مازحاً، من وقت
لآخر، حواديت ملفقة عن أصدقائه المقربين. هذه المرة بدت الحكاية أكثر منطقية،
وأعادتني فوراً إلى روايته «التاجر والنقاش» حيث الريف المصري يحتضن أتراكاً
ويونانيين و«خواجات» من أصول مختلفة. «كانت هناك عائلات تركية ويونانية وألبانية
تعيش في الريف، وكانوا يملكون المقاهي التي تقدم المشروبات الكحولية ويلعب روادها
الورق والقمار... عشت هذه المرحلة في طفولتي وعايشت جدي لأمي واتذكره وهو على فراش
المرض».
يقول قبل أن يضحك مستعيداً في حديثه قسوة أبيه الذي كان يضربه بعنف بالغ
لأقل هفوة، ويجبره على قضاء أجازة الصيف في استذكار دروس السنة التالية، وهي قسوة
عوضها حنان الأم الشديد. ربما تكون هذه القسوة تحديداً هي ما منحت المرأة هذا
الدور المركزي في إبداع صاحب «صخب البحيرة»، ثمة حنو في مقاربة الشخصيات النسائية،
وتعاطف ملحوظ معها.
كل تفصيلة يحكيها البساطي عن حياته المبكرة، هناك، بالقرب من بحيرة
المنزلة، تردنا على الفور إلى إبداعه، سواء بشكل مباشر أو بمواربة يتقنها ككاتب. ولم
لا؟ ألم يأخذ منذ بداياته بوصية هيمنغواي الذهبية بأن يكتب عمّا يعرفه جيداً؟! كتب
البساطي، ولا يزال يكتب، عمّا يعرفه جيداً. حوّل ذكريات الطفولة إلى منبع لا ينضب،
وجعل من البحيرة وما يجاورها مكاناً أسطورياً لا يُنسى. في عوالم لا يكاد يتغير
فيها شيء، ومع شخصيات تنسج «بطولتها» الخاصة عبر تفاصيل صغيرة تواجه بها أقداراً
لا ترحم، تصبح تقلبات الطبيعة حدثاً ذا شأن، وتصير مياه البحيرة المتهادية ببطء في
مفتتح «صخب البحيرة» مشهداً يجمع بين سحر السينما والفن التشكيلي والشعر: «تتهادى
مياه البحيرة لدى اقترابها من البحر. شاطئها البعيد الذي يغيب في الأفق ينبثق
مسربلاً بالضباب. ثم يبين بلونه الرمادي الباهت كاشفاً عن تعرجاته ونتوءاته وينثني
في انحناءة حادة داكناً بلون الطين. تزداد كثافة الغاب والعشب باقتراب شاطئيها. يمضيان
منعرجين، يشكلان مجرى قليل الاتساع يسيل الطين لزجاً على ضفتيه، ويختفي الغاب
باقترابه من البحر حيث ينبسط شاطئه الرملي بصخوره الضخمة القاتمة».
عاش كاتبنا حاملاً هذا المكان بداخله، غادر قريته قبل سنوات بعيدة، لكنّ
عالمها لم يغادره. استحضره في معظم ما كتب. مع البساطي، يكتسب المكان بعداً
غرائبياً رغم واقعيته الشديدة. اللغة المقتضبة المتقشفة ظاهرياً تحمل شحنة شعرية
عالية. الكتابة، في هذه الحالة، إعادة خلق لعوالم تلاشت وضاعت في دهاليز الماضي،
دونما نوستالجيا، ربما لأن المؤلف/ الصانع لا يزال يعيش بمشاعره وحواسه في عالمه
القديم.
أخبره أن أقرب أعماله إلى نفسي هي: «صخب البحيرة»، «ضوء ضعيف لا يكشف شيئاً»،
و«منحنى النهر». أذكره بقصة «كوب الشاي الأخير»، فيقول إن كثيرين يعتبرون «صخب
البحيرة» أكثر أعماله فنية، لكنّ الرواية الأقرب إليه هي «ويأتي القطار»، قبل أن
يضيف: «الكتاب المفضل للكاتب من بين أعماله ليس بالضرورة الأكثر فنية أو عمقاً،
ولكنه ذلك الذي يلامس ذكريات محببة إليه. «ويأتي القطار» كلها ذكريات تعود لفترة
صباي».
الآن، وعبر هذه الكلمات، أقول له إن الرواية التي ننتظرها بشغف، نحن
أصدقاؤه ومحبوه، هي تلك التي تخايله بداياتها حالياً، واثقون أنه سينجح في إنهائها
بعد أن يقهر هذا الزائر الطارئ بدلاً من استئناسه أو ترويضه.
عن جريدة السفير 22 يوليو 2011
No comments:
Post a Comment