منصورة عز الدين
في قصته "ذاكرة فونس"
يحكي الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس عن رجل يحيا تحت وطأة ذاكرة لا نهائية،
لا تنسى أياً مما يمر بها. أو كما يصف هو نفسه: "لديّ وحدي ذكريات تفوق كل ما
تذكره كافة البشر منذ أن صار العالم عالماً".
لم يكن "فونس" يتذكر
كل ورقة في كل شجرة على كل جبل فحسب، بل أيضاً كل مرة رآها أو تخيلها. يكتب بورخِس
في القصة التي ترجمها د. محمد أبو العطا: "كان يعرف كل تكوينات السحب
الجنوبية في فجر الثلاثين من أبريل من عام ألف وثمانمائة واثنين وثمانين، ويستطيع
أن يقارنها في الذاكرة بخطوط ورق الكتب الإسباني التي رآها مرة واحدة لا غير
وبخيوط من الزبد التي خلفها مجداف في النهر الأسود عشية حركة كبراتشو".
تثقل الذكريات على فونس، يغرق
في تفاصيلها فتتحول قوتها من هِبة إلى لعنة!
أفكر فيه فأراه كشخص لا يفعل
شيئاً سوى الاستعادة الدائمة لما يراه حوله، كأنه لا يعيش الحياة بل يتذكرها ويحلم
بها. أن تعيش بذاكرة معصومة من الخطأ يعني أن تغرق في عالم يعادي الانتقاء والفرز،
يساوي بين الذكريات المهمة والتافهة، ويؤرشف أوهن الأشياء بالدقة نفسها التي يحفظ
بها أكثر الأحداث مصيرية.
هكذا تصير الحياة جحيماً من
التفاصيل والجزئيات، متاهةً يستحيل سبر غورها.
في مقابل مثال "فونس"
الخيالي يبرز نموذج مريض الـ"ألزهايمر" الذي يعيش في عالم من نسيان تام..
أسيراً للتشوش، والتقلبات المزاجية، وانهيار اللغة.
وبين المثالين المتطرفين تتنوع
علاقة كل منا بذاكرته الخاصة، تنوعاً يحتوي على تشابهات بالتأكيد، وإن ظل كل شخص
حالة فريدة.
يحلو لي تخيل جماع ذكريات كل
فرد باعتبارها عمله الأدبي الخاص، نصه الذي يتشارك في صياغته الوعي واللاوعي بشكل
غامض، بحيث يحصل في النهاية على "حكاية" هي مزيج من العاطفة، والعقل،
والأحلام، والتهويمات، والوقائع التي حدثت فعلاً.
لا يمكننا أبداً فهم كيف تعمل
الذاكرة؟ أو ما الآليات التي تدفعنا لتذكر أشياء معينة وجرف أخرى إلى هاوية
النسيان؟
تأمل الذاكرة الإنسانية يدفع
حتماً للدهشة. يعايش كل منا معجزة يومية من دون أن يفطن إليها ربما من فرط
الاعتياد. أعني معجزة أن تقودك رائحة، أو كلمة أو لمحة عابرة للغوص في كهوف ذكريات
قديمة والعودة بصيد من تفاصيل عايشتها قبل سنوات طويلة.
لا يهم إن جاءتك الذكريات ناصعة
ودقيقة كما حدثت بالضبط أم لا، فقد تصلك مغلفة كما لو بضباب كثيف، أو محرّفة بآثار
رغباتك وأمنياتك لما كان يجب أن يكون لا بما وقع فعلاً.
ما يهم هو أن الهوية الشخصية
تتأسس على الذاكرة، وتغيب وتضمحل بفقدانها. أن حياتنا، من وجهة نظر كثيرين، ليست
ما نحياه، إنما ما نتذكره مما عشناه. أي ما يتبقى من حياة حافلة من أثار "تلوح
كباقي الوشم في ظاهر اليد" لو استعرنا كلمات طرفة بن العبد.
* عن مجلة الصدى